أولاً : استهلال وتوطئة :
أخطأ المقدرون الذين واكبوا معركة " طوفان الأقصى " في مدى تحمل هذا العدو للحروب طويلة المدة والزمن ؛ حيث كان الجميع يقولون أو يظنون أن هذا العدو ؛ ولأسباب موضوعية وذاتية لا يمكن أن يتحمل العيش في ظروف حرب تمتد أيامها لتصل شهراً أو شهوراً ، فلا ( مجتمعه ) مهيأ لمثل هذه الظروف ، ولا قدراته تسمح له بخوض حرب استنزاف ، ونسي الجميع ـ ونحن منهم ـ أو تناسى أن هذا العدو الذي فُتحت عليه النار في السابع من أكتوبر 2023 ، وما تركته هذه النار من ندوب وجراح ، حفرت في عمق وعيه ، وكوت شرايين قلبه و ( عَلّمت ) عليه علامة لن يمحوها ماح ، ولن يرمم أثرها مرمم ، هذا العدو ما بعد الحرب هذه ليس هو ما قبلها ، لذلك نراه مستشرساً ، مستعداً لتحمل الأكلاف والخسائر ، بغض النظر عن حجمها أو نوعها ، لذلك طالت حربه حتى دخلت شهرها الرابع ، وما زال قادته يتوعدون بإدامتها إلى أن تحقق أهدافها ( حلم إبليس في الجنة ) . ومواكبة للحرب الدائرة في غزة ؛ تداعت جبهات " محور المقاومة" ففتحت النار على هذا العدو بدأَ من صنعاء في اليمن مروراً ببغداد العراق ، وصولاً إلى الجنوب اللبناني ، حيث أشدها ـ الجبهات ـ إيلاماً لهذا العدو ، وتأثيراً على مكونات هذه الفسيفساء غير المتجانسة ، التي جُمعت من شتى بقاع الأرض ، فقد هجّرت نار" حزب الله" في لبنان مئات آلاف المغتصبين ، وأخلت ودمرت مئات الوحدات السكنية في مغتصبات الشمال الفلسطيني ، كما جمدت هذه النار فرقاً عسكرية نظامية ؛ العدو في أمس الحاجة لها للعمل في مسرح عمليات غزة . إن هذه الورقة ليست في وارد تقييم عمل جبهات عمل " محور المقاومة " ، ولا هي ـ الورقة ـ في وارد القول ما هو مطلوب فعله من قبل هذه القوى ، فكلهم يعرف تكليفه ، وحدود طاقته ومحددات عمله ، إنما تأتي هذه الورقة لبحث مسألة تهديد العدو بالويل والثبور وعظائم الأمور للبنان وأهله ومقاومته ، فلا يكاد يمر يوم دون خروج حامي الرأس " غالنت " مهدداً متوعداً ، بأنه سيعيد لبنان مئة سنة للخلف ، إن لم ترعوي مقاومته ، ويرتدع أهله ، ومع ذلك ما زالت المقاومة مشتبكة مع هذا العدو ، فمعدل عملياتها اليومية لا تقل عن الخمس عمليات ، من مختلف الأنواع ، وبمختلف الوسائط ، فلا التهديد أجدى معها ، ولا الوعيد ردعها ، بل إن الأمين العام لحزب الله السيد " حسن نصر الله " خرج بالأمس القريب ، مرحباً مؤهلاً بأي تمدد للحرب ، وأن سلوك المقاومة العسكري سيجاري سلوك العدو التعبوي ؛ فإن زاد في ضرب العمق اللبناني ؛ ستزيد المقاومة من ضرب عمق فلسطين المحتلة ـ بالأمس قُصفت قيادة المنطقة الشمالية في مدينة صفد المحتلة ـ ، وإن هو ـ العدو ـ قتل مدنيين ؛ فسترد المقاومة بما يضمن أخذاَ بثأرهم ، وما يشفي صدور أهلهم .
معادلة أن العدو لا يُقدم على شن حرب ما لم يضمن سرعة إنهائها ، وحسم أهدافها ، وضمان خواتيمها ما زالت قائمة
إن هذه الورقة ـ التقدير ـ ستتحدث بشكل سريع ودون إطناب عن ما يمكن أن يشكل دوافعاً تدفع العدو لشن حرب على لبنان ، وما يمكن أن يشكل مثبطات وكوابح تكبح جماح ذوي الرؤوس الحامية عند العدو ، فتمنعه من خوض مثل هذه المغامرة المقامرة ، آخذين بعين الاعتبار أن معادلة أن العدو لا يُقدم على شن حرب ما لم يضمن سرعة إنهائها ، وحسم أهدافها ، وضمان خواتيمها ؛ هذه المعادلة ما زالت قائمة ، وما نشهده في غزة هو استثناء للقاعدة هذه ، تطلّبه (حمّ الكف ) الذي ( اكله ) العدو في السابع من أكتوبر 2023.
ثانياً : الدوافع :
إن التدقيق في الموقف العام لمنطقة الشرق الأوسط ، والذهنية التي بناها العدو في عقول أبنائها ، وما تركته معركة " طوفان الأقصى " من أثر على صورة العدو في هذه الأذهان والعقول ، وما تركته هذه الحرب من آثار غير قابلة للمحو أو الدثر ؛ كل هذه الأسباب تدفع العدو للقيام بمقامرة مع الجبهة اللبنانية ، مدفوعاً أيضا بدوافع عدة من أهمها :
- ترميم صورته في أذهان المحيط ، والتي تضررت أيما تضرر .
- إعادة بناء معادلة ردعه لأعدائه ، والتي عاش في ظلالها عشرات السنين آمناً مطمئناً .
- تأمين مغتصبي الشمال وإعادتهم إلى مغتصباتهم ، التي تشكل خط الدفاع الأول أمام أي تهديد متصور لهذا العدو .
- تقليص المخاطر والتهديدات الناشئة شمالاً ؛ عبر تدمير ما يمكن من أصول بشرية ومادية للمقاومة.
- استعادة ثقة الداخل الصهيوني بالمؤسسة العسكرية التي تعد قدس الأقداس ، والبقرة المقدسة ، وبوتقة صهر أجزائه المتنافرة .
- استعادة المكانة السياسية في الساحة الإقليمية والدولية ، لما تحمله عدم الاستعادة هذه من آثار سيئة على مستقبل هذا العدو ، وطبيعة حركته المستقبلية .
- محاولة إعادة عجلة التطبيع إلى سابق عهدها من دوران وتدحرج .
- سحب (ورقة ) التهديد القريب ـ تهديد حزب الله ـ ، من يد العدو البعيد ـ إيران ـ .
هذه باختصار أهم الدوافع التي يمكن أن تشكل عاملاً مهماً من العوامل التي يبني عليها المقدرون رأيهم ووجهة نظرهم فيما يخص استحالة عدم قيام العدو بشن حرب على المقاومة في لبنان .
ثالثاً : المثبطات والكوابح :
لكن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... " ، وكثيرة هي الحالات التي لا تناسب فيها القدرات والرغبات والتمنيات ، وليس المقصود بالقدرات ما تملكه من إمكانيات ومعدات ؛ وإنما ما يمكن أن تشغّله ، أو تسمح لك به المواقف القتالية والسياسية من تشغيله . لذلك فإن كان هناك من دوافع ومحرضات للحرب ، فإن لها كوابح ومثبطات ، من أهمها:
- حجم التهديد والخسائر المتصورة من جراء تشغيل المقاومة لقدرتها القتالية ضد هذا العدو ـ العدو صحيح مغامر مقامر ، ولكنه فيما نحسب ليس مجنوناً ـ .
- موثوقية التهديد وفاعليتة ، فالمقاومة عندما تهدد وتتوعد ، فإن العدو يعلم أن هذا التهديد والوعيد ، حقيقي ، وليس من باب ( تكبير الحجر ) ، لذلك فإن العدو يحسب حسابه بناء على معرفته بهذا التهديد ، وفهمه لما يحمله من مخاطر .
- حضور قرار تشغيل القوات وبكامل طاقتها ، فهذه المقاومة لم تراكم ما راكمت ، ولا خزنت ما خزنت ، ولا دربت من دربت ، من أجل الاستعراض والتظاهر و ( شوفيني يا بنت عمي ) ، إنما جمعت وراكمت ليوم كريهة وسداد ثغر، وما خفي أعظم .
- عدم ثقة العدو بتحقيق الأهداف التي سيشن الحرب من أجلها ، فلا الجنوب سيخلو من المقاومة ، ولا قراه ستطرد أبناءها ، فبمجرد إنهاء الحرب ، ووقف النار ؛ ستعود الأمور إلى سابق عهدها ، وستبدأ المقاومة بالترميم ، وعندها ( كأنك يا أبو زيد ما غزيت ) .
- عدم كفاية القدرات أمام انفتاح الجبهات ، فالعدو يعلم أن حرباً سيشنها على لبنان ، لن تقف عند حدوده ، وإنما سيتدخل فيها باقي أعضاء " محور المقاومة " من صنعاء في اليمن ، وحتى درعا في سوريا ، فضلاً عن الظهير ـ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ الذي سيجند كل طاقته لمنع هزيمة أهم حلفائه في المنطقة ، ودرة تاج أمنه القومي ـ واللي مش مصدق يجرب ـ .
- من كوابح الحرب الشاملة في لبنان ؛ إدارك العدو أن قرار هذه الحرب ليس قراراً صهيونياً صرفاً ، فالعدو الأمريكي شريك مهمٌ في أخذ هذا القرار ، كونه ـ العدو الأمريكي ـ يعرف أن ارتدادات هذه الحرب ستطاله ، وأن شررها سيحرق ( ثوبه ) .
هذه مثبطات خمس نعتقد أنها من أهم ما يحول دون العدو وخوض غمار مقامرة غير محسوبة النتائج ، مجهولة المآلات ، غير محسومة النتائج والغايات .
رابعاً : الاستنتاج :
أمام هذا الموقف ، فإن كاتب هذه السطور لا يعتقد أن العدو الإسرائيلي سيرتكب خطأ عمره بفتح نار حرب شاملة على لبنان ، تحت ذريعة كبح جماح " حزب الله " ، وأن المناوشات مضبوطة السقوف ، والمتحكم في أدواتها وإجراءاتها ، هي التي ستبقى سيدة الموقف في لبنان ، على أن يواجه الفعل برد فعل موازٍ من كلا طرفي معادلة الصراع في مسرح العمليات هذا . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .