أولاً: أرضية البحث والمدخل:
لا ينفك العدو الإسرائيلي من تكرار لازمة أنه ذاهب إلى رفح، وأنه سيجتاحها، وأنه أعد الخطط وأصدر التدابير العملياتية لإنجاز هذه المهمة التعبوية، وأن عدم دخوله إلى رفح يعني بقاء جزء لا يستهان به من القدرات القتالية لدى المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة " حماس " يمكن من خلاله ـ القدرات ـ إعادة بناء ما فقد، وترميم ما تضرر من هذه القوات والأصول قتالية. كما أن العدو الأمريكي ( فلق راسنا ) وهو يقول أنه هو من يحول بين العدو الإسرائيلي وبين الخروج في هذه المهمة ، وأنه ـ العدو الأمريكي ـ لن يسمح بمثل هذه العملية ما لم تكن هناك ( ضمانات ) وترتيبات يُتحقق من خلالها من عدم الحاق أضرار كبيرة في المدنيين الذين بات عددهم في مدنية رفح يصل إلى ما يقارب المليون والمئتين ألف نازح . إن هذه الورقة ستحاول البحث في المعاني التعبوية خلف إصرار العدو الصهيوني، وكذلك تفهم العدو الأمريكي لمثل هذه العملية، من خلال التطرق إلى مجموعة عناوين ومفاصل، وبما يسعف به الوقت ومساحة الكتابة .
1. بداية الحرب وأهدافها:
لقد بدأ العدو حربه في السابع من أكتوبر 2023 كرد فعل على عملية " طوفان الأقصى " التي فاجأت بها حركة " حماس " وفصائل المقاومة الفلسطينية جنود العدو المرابطين على غلاف غزة ، فصبحتهم قوى المقاومة على حين غرة فـ ( نعفتهم ) ودمرت مواقعهم ، وأسرت منهم ما أسرت ، وقتلت ما قتلت . ثم استجمع العدو شتاته ، وما تبقى من قواته ، مستوعباً موجة هجوم المقاومة الأولى ، ثم حشد قدراته القتالية ومن مختلف الصنوف ، معلناً حربه التي أسمها " السيوف الحديدية " محدداً لها مجموعة من الأهداف ، اختصرها بــ " القضاء على مصادر التهديد الحالية والمستقبلية ، واسترجاع الأسرى ، من خلال تفكيك قدرات حركة " حماس " السلطوية والقتالية " .
2. مراحل الحرب :
بعد أن حشد العدو قدراته ، وجند حلفائه ، خاض معاركه في طول القطاع وعرضه عبر مراحل عمل ، تكاد تشبه بعضها البعض ، حيث استهل العدو قتاله بعمليات قصف وتمهيد ناري من مختلف صنوف النار ؛ الجوية والبرية والبحرية ، شمل جميع مناطق مسرح عمليات قطاع غزة ، مُثبّتاً ومشاغلاً جبهات قتال ، وخطوط مواجهة ، ومناطق عمليات ، على حساب حشد وتشغيل قدرات قتالية على محاور جهد رئيسية أخرى ، فقطّع القطاع إلى مناطق عمليات ؛ شمالية ووسطى وجنوبية ، ثم بدأ بالتعامل مع هذه المناطق واحدة تلو أخرى ؛ فارتقى من أهلنا وشعبنا آلاف الشهداء ، ودمرت البنى التحتية والمقرات الخدمية ، من مستشفيات ومراكز صحية ، ومحطات تحلية مائية ، و( حرث ) العدو الشوارع والطرقات ، وأعلن في أكثر من مرة أنه أنهى قتاله في المكان الفلاني ، وأنه يستعد للقتال في مكان آخر ! ليعود فيقاتل في نفس المكان الذي زعم أنه ( طهره ) من المقاومين ، وقضى على ما فيه من قدرات ومعدات ومجاهدين .
3. القتال في الشهر السادس للحرب :
وبعد مضي خمسة أشهر على القتال ، ودخول الحرب في شهرها السادس ، عاد العدو ليقاتل في مربعات قتالية ، قيل أنه أنها عملياته فيها ؛ فقد عاد ليقاتل في حي الزيتون وتل الإسلام ، وخاض قتالاً هو الأشرس ـ على حد زعمه ـ في مدينة " حمد " في خان يونس ، ثم هو اليوم يقاتل في المنطقة الوسطى ، وما زالت المقاومة تصليه نارها و ( تشويه ) بمتفجراتها المعيارية ، متى وأين وكيف شاءت ، فعلا صراخ قادته ، إلى الدرجة التي قال فيها حامي الرأس " غالنت " ورئيس أركان جيشه " هاليفي " أننا نتكبد خسائر كبيرة ( وين ) في مدينة حمد ! وهي ـ مدينة حمد ـ جزء بسيط من جهاز دفاعي أعدته المقاومة في طول القطاع وعرضه . ثم تأتي ثالثة الأثافي الصهيونية والتي عبر عنها رئيس وزرائه بالقول : أن عدم دخول رفح يعني الهزيمة وعدم تحقيق أهداف الحرب !!
4. المنطق المهني في الترتيب القدراتي :
إن أهل الاختصاص وأصحاب الفن يعلمون أن هناك منطق مهني في بناء ونشر وموضعة القدرات القتالية ؛ البشرية منها والمادية ، يحكم مسار بنائها ومراكمتها ، وهوـ المنطق المهني ـ ما يفسر ويشرح: الكم ، والنوع ، أو ما يعبر عنه بلغة الاختصاص الصنف ، والتنظيم ، والتسليح و ... باقي منظومة بناء القدرات . إن هذا المنطق المهني يقول أن مسار بناء القوات ـ القوة = قدرة + إرادة ـ ونشرها جغرافياً يراعي التالي :
- حيث مركز التهديد وثقله تكون عمدة القوات وأغلبها .
- حيث الأهداف الحيوية ومراكز ثقل الدولة السيادية تكون أهم التشكيلات وأقواها .
- حيث مراكز الثقل البشرية ، تكون منظومات الدفاع ووسائطه .
- كلما بعدت المسافة عن المركز ـ العاصمة ـ قل التركيز القدراتي ، ما لم يكن في ناحية التهديد الأصلي ذو الأولوية .
وفي هذا المبحث تفصيل كثير يطول الحديث فيه وحوله وعنه ، وهي أمور تخصصية يعرفها كل ذي فن ، وصاحب اختصاص ، نعفي القارئ الكريم منها ، فكل ميسر لما خلق له ، وما استحضرناها هنا إلّا نقول : كيف يستقيم قول العدو أن رفح فيها مراكز ثقل بشرية ومادية للمقاومة ؟ وهي المدينة الحدودية البعيدة عن مصدر التهديد الرئيسي والأهم لها ـ للمقاومة ـ .
ثانياً : ماذا يعني الإصرار على اجتياح رفح بعد ستة أشهر من القتال :
نصل إلى أصل الهدف من هذه الورقة ، وهو تفسير ، ومحاولة فهم ما يقوله العدو من أن عدم دخوله إلى مدينة رفح واجتياحها يعني الهزيمة وعدم تحقيق الأهداف ؟ إن المتفحص لهذا القول ، والقارئ بين سطوره ، يسعه فهم كثير من الأسباب التي تقف خلفه ، ولكننا إيجازاً ، سنقتصر على أهم ما نعتقد أنه السبب خلف ما يقوله ويستند له العدو في إصراره على تنفيذ هذه العملية ، وعدّها " أم المعارك " ، وهو كالآتي :
1. فشل الحرب ومعاركها في تحقيق الهدف السياسي :
ما يطيل زمن المعارك والحروب ، ويوسع من رقعة انتشارها ، ويدفع على تحمل خسائرها البشرية والمادية ، هو عدم تحقيقها للأهداف السياسية التي شُنت من أجلها ، فالحرب ليست لمجرد الحرب ، والقتال ليس لمجرد القتال ، وهي ـ الحروب والقتال ـ ليست أهدفاً بذاتها ولذاتها ، إنما هي وسيلة لتحقيق أهداف تعبوية تمثل ما استخلصه واستنتجه القادة العسكرين من التوجيهات السياسية والاستراتيجية التي صدرت لهم من قادتهم السياسيين ، فإن هم ـ العسكريون ـ أنجزوا المهمة ، وحققوا أهدافاً يمكن أن تستثمر و (تقرش) سياسياً ؛ وقفت الحرب ، وانتهت المعارك ، وإن هم أخفقوا في تأمين المطلوب ، طالت الحرب واتسعت رقعتها ، وهذا ما نراه الآن في غزة .
2. فشل المعارك في تحقيق الأهداف التعبوية المتمثلة في تدمير قدرات حماس السلطوية والعسكرية :
يصوغ القادة السياسيين أهدافاً وغايات عليا للحرب ، تتمثل في دفع تهديد ، أو تأمين مصلحة حيوية لشعوبهم وأوطانهم ، ثم يُترك للقادة العسكريين ، وأهل الاختصاص تحويل هذه الأهداف إلى مهام تعبوية ، فإن كانت الغاية العليا التي وضعها المستوى السياسي للعدو هي القضاء على تهديد حركة " حماس " وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية ، والذي ـ التهديد ـ كان يقض مضجع العدو ، فإن بقاء الحرب إلى الآن وتصوير عدم الدخول إلى رفح على أنه هزيمة ، يعني فيما يعنيه ؛ فشل العدو في تدمير قدرات حركة "حماس " السلطوية والعسكرية ، وبقائها ـ حماس ـ مع باقي فصائل المقاومة تهديداً ذا مصداقية على أمن العدو وأصوله البشرية والمادية .
3. التدمير كوسيلة للتثوير :
إن هذا العدو معروفٌ بحقده ودمويته ، وتاريخه يشهد على ذلك ؛ فمنذ احتلاله لبلادنا وحتى اليوم قام بمئات المجازر ، من دير ياسين إلى بحر البقر ، إلى قبية ، فصبرا وشاتيلا ، ثم قانا ، فالمعمداني ، كما دمر ويدمر هذا العدو النازي بأسلحة العدو الأمريكي بنانا التحتية ، ومؤسساتنا الخدمية ، حارماً أهلنا من أبسط مقومات الحياة الآدمية ، وهو في هذا السلوك ؛ وإن كان يريد تدمير كل ما يمكن أن يساعد في المجهود الحربي وصمود الجبهة الداخلية للمقاومة ، إلّا أنه يرمي من وراء هذا الإجرام المنظم والمكرر ؛ محاولة تثوير الحاضنة الشعبية في وجهة المقاومة ، لتصبح طابواً خامساً يطعنها في ظهرها ، ويفت في عضدها ، وهو نفس السلوك الذي يمارسه هذا العدو النازي في مدن وقرى الضفة الغربية ، ولكن فأله خاب وسيخيب ، وسهم مكره طاش وسيطيش .
4. إطالة زمن الحرب هرباً من تحمل المسؤوليات والنتائج :
ومن أسباب الإصرار هذا ؛ ارتباط المصير السياسي والمهني لطبقة كبيرة من ساسة وعسكري العدو بهذه الحرب ، فكلما طالت ؛ طال زمن بقائهم ، وكلما امتدت أيامها ؛ مُد في عمرهم المهني ، بل أكثر من ذلك ، إن هؤلاء القادة ، من ساسة وعسكريين ، يعلمون علم اليقين أن لجان التحقيق ومحاكم المسالة تنتظرهم على الأبواب ، وأن السكاكين تشحذ لحفلة الطعان التي ستبدأ مباشرة بعد انتهاء هذه الحرب ، لذلك هم معنيون بدوامها ، واستمرارها .
5. السعي إلى ترتيب أوضاع أمنية مع ( الجارة ) المصرية لمنع سبل إعادة ترميم وبناء قدرات المقاومة العسكرية :
كما يمكن الظن ـ وليس كل الظن إثم ـ أن العدو يسعى من خلف هذا الإصرار إلى ترتيب أوضاع أمنية مع الشقيقة ـ ليس المقصود بالشقيقة صداع الرأس المزمن ـ الكبرى مصر ، من شأنه أن يوجد حقائق سياسية وميدانية ؛ سلماً أو حرباً ، تحرم المقاومة من سبل ووسائل إعادة ترميم القدرات وبناء الذات ، بعد انتهاء الحرب وما فيها من معارك وجولات .
6. استخدام ما تبقى من قدرات عسكرية في صناعة روافع سياسية تخدم العملية التفاوضية :
أخيراً فإن بقاء التهديد بالحرب والاجتياح من شأنه أن يولّد روافع ضغط يعتقد العدو أنه قادر على استخدامها في عمليات التفاوض الجارية ، علّه يُحصّل في السياسية ما لم يحصّله في الميدان ، وهذا أمر مطلوب لذاته عند أي سياسي أو عسكري ، فشكل جلوسهم على طاولة المفاوضات ، مرتبطٌ ارتباطاً عضوياً بما يحققونه في الحرب من إنجازات .
كانت هذه بعض الأفكار التي نعتقد أنها تساعد في فهم سلوك العدو من إصراره على دخول إلى رفح ، ولكن نقول له ما قاله قادة المقاومة ، من أنه هُزم ولو دخل رفح ، فمن يقاتل في الشهر السادس في حي الزيتون ، لن يفلح في تحقيق أهداف حربه من دخوله إلى رفح ؛ دخلها أو بقي على أعتابها . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .