وكأن الحرب تعود إلى أيامها الأولى، يَرفع الاحتلالُ من ضغطه الميداني بدرجة كبيرة، ويعود إلى تكثيف الضغط على المجتمع الغزي والحاضنة الشعبية ويغلق المعابر ويمنع دخول أي مساعدات، إضافةً إلى توسيع عمليته في رفح لتشمل مناطق وسط رفح خاصةً منطقة المخيم الأكثر اكتظاظًا بشكل تدريجي يتلافى فيه الاحتلال إثارةَ العالَم أو إشعارَ الولايات المتحدة بأن "خطوطها الحمراء في رفح" قد تم تجاوزها، إضافةً إلى عدوان يستهدف حي الزيتون جنوبي مدينة غزة، وتكثيف الغارات وتوزيع منشورات بإخلاء مخيم جباليا والأحياء المحيطة فيه تمهيدًا لعدوان واسع.
تحركت قوات الاحتلال في اتجاه حي الزيتون، سعيًا إلى تأمين محيط عازل لمحور "نيتساريم" يقيه من نيران الصواريخ قصيرة المدى وقذائف الهاون التي تستهدف تمركز قواته في المحور، فكان الواقع نتيجة أكثر صعوبة على جيش الاحتلال من تعرُّض قواته للنيران في المحور، إذ تحسم المقاومة وحجمها ونوعية ضرباتها وأثرها في حي الزيتون تمامًا زيفَ ادعاءات الاحتلال بتمكُّنِه من تفكيك البنية التحتية للمقاومة أو توجيه ضربات مؤثرة لقدراتها، وتعكس حجمَ الفجوة ما بين ادعاءات الاحتلال والواقع الميداني، وبالتالي حجم الفجوة بين ما هو واقع وما بين الأهداف الهلامية التي حدَّدها رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو"، للحرب وفي مقدمتها القضاء على المقاومة وتفكيك قدراتها.
في الميدان، رفعَت المقاومةُ أيضًا من وتيرة تصدِّيها للعدوان، وقصفَت برشقات صاروخية مدينة بئر السبع المحتلة، إضافةً إلى رشقات متعددة استهدفت النقب الغربي و"غلاف غزة"، فيما لم تتوقف مفارز الهاون عن ضرب مواقع تمركُز جيش الاحتلال في محور "نيتساريم" ومحور التقدم شرقي محافظة رفح، فيما تَشهد محاورُ التقدمِ في شرقي رفح وفي مشارف حي الزيتون مواجهاتٍ ميدانيةً كبيرةً تمكنت المقاومة في خلالها من تكبيد القوات الغازية خسائر متعددة في الأرواح والمعدات.
دفعَ فشلُ جولة المفاوضات في القاهرة، والضغطُ الكبيرُ الذي بات مؤرقًا لحكومة الاحتلال، إلى اتخاذِه خطواتٍ لنسف المسار الحالي من التفاوض وإعادة الأمور إلى المربع الأول، طامحًا في أن يحقِّق الضغطَ الميدانيَّ الأقصى، وأن يوصل الحاضنةَ الشعبيةَ إلى مشارف الانهيار الكلي في انتزاع تنازلات جوهرية من المقاومة، ما دفعَ حركةَ "حماس" إلى إعلان تشاورها مع القوى لإعادة النظر في الاستراتيجية التفاوضية أمام الواقع الجديد، ما ينذر بدخول حالة الجمود الحالي إلى حالة استعصاء كلي قد تُدخِل الجميعَ في مرحلة جديدة من الاستنزاف المتبادل دون أي أفق حقيقي لمآلات الدائرة المفرغة التي علق الجميع فيها.
تقع الولايات المتحدة أمام خيارات صعبة، فإدارة "بايدن" المتخبطة باتت تعاني من ضغوطات متبادلة، فما بين الضغط الشعبي الكبير وتصاعُد الحراك الطلابي المؤيِّد للشعب الفلسطيني والداعي إلى إيقاف حرب الإبادة بحق قطاع غزة، وما بين ضغط اللوبي الصهيوني الذي استنفر كل قواه لإعادة الرئيس الأمريكي وإدارته إلى الدعم المُطلَق للحرب بعد أن أشعَل إيقافُ شحنة السلاح وتصريحاتُ "بايدن" بخصوص قتل المدنيين النارَ في الهشيم لدى حلفاء الاحتلال في الولايات المتحدة.
ستعمل المقاومة على البحث عن صيغة تحريكية جديدة تساعدها في تكثيف الضغط على الاحتلال من أجل إيقاف المراهنات على الضغط الميداني لتحقيق نتائج، والعودة إلى طاولة المفاوضات والقبول بالصيغ الأخيرة التي وصل إليها الوسطاء بوصفها أقصى ما يمكن أن تقدِّم فيه المقاومةُ مرونة. فيما ستُصعِّد الجبهات الإسنادية ضرباتِها إيذانًا بالدخول في فصل جديد من فصول التصعيد في وتيرة الحرب الحالية ووصول الأمور إلى مرحلة طحن العظام متجاوزةً عضَّ الأصابع بين المقاومة والاحتلال.