استهلال :
قيل في المثل أن " صحاب الحاجة أرعن " ؛ فما بلنا إن خلط صحابة الحاجة الخاص في العام ! عندها لا تستطيع أن تتوقع سلوكه ، ولا أن تتنبأ بقراراته ، وليس أخطر على المسؤول من موقف يجد نفسه فيه ؛ من موقف لا يستطيع فصل الخاص فيه عن العام ؛ عندها لن يستطيع أن يرى الأمور كما هي ، ولا قراءة خلفياتها ، والباعث والمحرك لها ، فضلاً عن تقدير مآلاتها وما يمكن أن تفضي له . هذا في العموم ؛ أما في الخصوص فإن صحاب الحاجة يسلك دروباً عدة من أجل الوصول إلى حاجته ، وتلبية مطالبه ورغباته ؛ عارضاً كل طريقة عمل يرى أنها قد تفضي به إلى ما يريد على ميزان الجدوى والأكلاف ؛ فإن كانت أكلاف الطريقة التي يعتقد أنها موصلة إلى هدفه أكبر وأكثر من جدواها ؛ فإنه يُعرض عنها ـ طريقة العمل ـ إلى سواها ، وهذا مقتضى العقل والفهم السليم ، والدين القويم ؛ فدفع المفاسد أولى من جلب المصالح ، ولا ( يتعبط ) صاحبة الحاجة طريق عمل للوصول إلى هدف وهو يرى أن فيها الموت الزؤام ، أو أن ما سينتج عنها من خير لا يقارن بما ستولده من شر؛ فالعاقل من عرف شري الشرين وخير الخيرين .
إن أصل هدف الدول والحكومات ، وما عليه عُقد عقدها اجتماعي مع أهل البلد أو الإقليم هو : تحصيل مصالح شعوبها والدفاع عنها ، ومنع التعدي عليها ـ المصالح ـ أو تهديها ، وهنا تتسع مروحة المصالح لتشمل كثيراً من الأمور ؛ لا تبدأ بالمحافظة على أمن ووحدة أراضي الدولة وأقاليمها ومن يسكنون فيه ، ولا تنتهي بتحصيل ما يُقيم أود أهل هذه الأقاليم ويحسين من عيشهم ، وبين هاتين الحافتين أمور لا يتسع المقال لذكرها ، أو التطرق لها . وعندما تريد هذه الدول تحصيل المنفعة ، أو الدفاع عن المصلحة ؛ فإنها تنتهج طرقاً متدرجة ، تبدأ بالأسهل ، فالأصعب ، ولا تنتقل من مستوى ً إلى آخر مالم تقطع بأن ما سبق لم ولن يحقق المطلوب ، فيبدأ القادة المسؤولين بالعمل الدبلوماسي وما فيه من مفاوضات ومناقشات ، و ( خذ وهات ) ، فإن حُصّل المطلوب ، ووصل إلى المرغوب ؛ طابت القلوب ؛ وإلا فالانتقال إلى المستوى الثاني من العمل ، وهو ممارسة الضغوط السياسية ؛ المباشرة وغير المباشرة ، وبشتى الوسائل والسبل ، ثم يُنتقل إلى ثالث مستويات الفعل والإجراء ، ألا وهو الحصار والمقاطعة ، وما فيهما من إجراءات ونشاطات ، ثم يبدأ ( البخار ) يصعد إلى الأدمغة ، وتَسخن الرؤوس وتحمى ، ونبدأ بسماع عبارات التهديد والوعيد ، وبعد استنفاد كل السبل والطرق ، تُسمع طبول الحرب وأبواقها ، وتحشد القوات ، وتعبئ القدرات ، ويُشرع في التحرك بتجاه مناطق العمليات ، فقد أعذر من أنذر . إذا فطرق تحصيل المصالح والدفاع عنها : دبلوماسية ، فضغوط ، فحصار ، فتهديد ، ثم الحرب والقتال .
هنا لا بد من التذكير أن المعارك والحروب والمناوشات الساخنة والخشنة ، إنما هي وسائل من أجل حل ما تعقد من نصوص وعبارات ، وفتح ما أغلق من أبواب ومسارات ، يُلجأ لها كأخر المعابر الموصلات ، وقد يظن المرؤ أن مجرد اختار هذه الطريق ، وانتهاج هذا النهج ، أنه سيحل ما تعقد ، ويفتح ما أوصد ؛ وأن حربه التي أعلنها ، أو معركته التي فتح نارها ؛ ستبقى كما خطط لها ؛ محدودة المكان والزمان ، مُتحملة الخسائر والأكلاف ، ويغيب عن صاحب قرار الحرب ، أو مشعل أوارها ونارها ، أنها ـ الحرب ـ لا تشبه ما خطط له على الورق ، ولا ما رسم على ( كالكات ) الوضعيات وخرائطها ، وأنها قد تخرج عن السيطرة ، وتتدحرج زماناً ومكاناً ، ولنا في معركة أوكرانيا السابقة ، معركة "طوفان الأقصى " اللاحقة خير دليل ، ففي الأولى ظنت روسيا أنها بما تملك من قدرات وإمكانيات ، قادرة على حسم الموقف في أقصر الأوقات ، وأن حربها ضد غريمها لن تطول ، فإذا بها تدخل عامها الثالث ، دون حسم أو انتصار يمكن أن يُصّرف في السياسية ، وفي الثانية حيث معركتنا مع عدونا الغاشم الغاصب ؛ تقاتل فيها قوى المقاومة وفصائلها في شمال غزة بعد ثمانية أشهر من القتال ، وكأنها تقاتل في اليوم الأول للمناورة البرية للعد في بدايات كانون الثاني 2023 ، وهو الذي ظن قادته ومخططو عملياته أنهم سيحسمون الموقف لصالحهم في فترة زمنية لا تتجاوز الشهرين ! وإذ بهم ( يغرزن) في خان يونس لوحدها ما يقارب الشهرين ، وهي التي قال قادة مناورة العدو فيها ، ومالكوا زمام الفرقة 98 أنهم سيحسمون المعركة هناك خلال أسبوع !! إذا فالمعارك والحروب قد لا تكون على الشكل أو الوجه الذي خططت له ، أو بتلك السهولة والسلاسة التي ظهرت في مناورات التدريب السابقة لها ، كيف لا والحرب أعقد نشاط بشري فيه من المفاجآت ، والمجاهيل ، والمخاطر ، والفرص ، التهديدات ؛ ما يجعل منها أكبر مساحة غامضة قد يدخلها آدمي !
إن هذه الورقة ستتحدث عن حالة الاستعصاء الذي تدخلها الحروب والمعارك ، وعن أهم الأسباب التي يعتقد كاتب هذه السطور أنها تفضي بالحرب إلى نفق مظلم لا يُرى آخره ، آخذين بعين الاعتبار أن أسباب مثل هذه الاستعصاء كثيرة ، قد تتعدد فيها وجهات النظر ، وتختلف فيها زوايا التقدير ، كوننا نناقش نشاطاً بشرياً ( معجوناً ) بصفات وميزات وسجايا أصحاب القرار فيه . أما عن أهم ما نعتقد أنه يُدخل الموقف القتالي في حالة من الأزمة ، والمراوحة في المكان ، مع ما يصاحبه من خسائر وتضحيات بشرية ومادية ، فإنه قد يكون أحد هذه الأسباب ؛ منفردةً ، أو كلها مجتمعة وهي :
عدم تحديد الهدف السياسي من الحرب بشكل دقيق :
لا نريد أن نطيل الحديث في هذا الأصل ، فأي نزاع أو ( طوشة ) في حي أو حارة ، لا يروم أطرافها أهدافاً من خوضها ، لا تعدو ضرباً من العبث و ( ولدنة ) لا تجر على من أشعل نارها سوى الملامة ، فضلاً عن مساءلة ممن نغص عليهم هدوء يومهم ، فما بالنا بحروب أو معارك أو صراعات ، يتسع أثرها وما ينتج عنها من تضحيات وويلات ليعم الجميع ، إن قرار الحرب إن لم يكن خلفه ، والغاية منه تحقيق هدف سياسي أو غاية مصلحية للدولة أو التنظيم أو الحركة ، وشعبها ومن تلي مسؤوليته ، إن قرار بحرب لا تهدف إلى هدف سياسي ، إنما هو قرار عبثي ، مسؤول عنه صانعوه ، ومتخذه في الدنيا قبل الآخرة . لذلك إن لم يكن هناك هدف سياسي ـ تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ـ متفق عليه بين ذوي الشأن والأمر ، غير حمّال ـ الهدف ـ لأوجه من حيث المعنى والمضمون والمقتضى ، ونمك من القدرات ما يمكنّا من تحصيله ؛ فهو من ضمن القدرات وليس من عالم الرغبات ، ما لم يكن أمر الهدف على ما قيل من توصيف ؛ فإن الحروب والمعارك والأزمات ، تدخل في حالة من الاستعصاء التي تحيلها إلى أمر مزمن طويل الوقت ، ممتد المدة .
عدم القدرة على تحويل الأهداف السياسية إلى مهام عسكرية وتعبوية :
وما يدفع الموقف إلى الاستعصاء ؛ عدم قدرة جهات الاختصاص ، صاحبة مسؤولية وصلاحية تشغيل القدرات الخشنية المطلوب تفعليها لتحصيل المصلحة أو دفع المفسدة ، عدم قدرتهم على تحويل الأهداف السياسة إلى مهام عسكرية تعبوية ، تَحلُ ما انعقد ، وتفتح ما أوصد ، بأقل الأثمان ، وبأسرع الأوقات ، وعدم القدرة هذه ناتج عن مجموعة من الأسباب ، لن نخوض فيها حتى لا يطول الحديث ، ولكنها ـ الأسباب ـ لا تبدأ بعدم وضوح الهدف السياسي ، ولا تنتهي بقلة كفاءة المستوى الاختصاصي الذي يُطلب منه تحويل هذه الأهداف إلى مهمات ، وبين هذين السببين أسباب ، قلنا أنه يطول شرحها والحديث حولها . فإن عهدت القيادة السياسية تنفيذ الأهداف إلى قيادة غير مهنية ، ذات كفاءة اختصاصية ؛ " فأبشر بطول سلامة يا مربع " .
عندما لا يُعرف العدو عين المعرفة :
كما أن عدم المعرفة الشاملة التفصيلية بالعدو ؛ نقاط قوته وضعفه ، دوافعه للقتال ، قدراته الذاتية العضوية ، وما يمكن أن يستدعيه من قدرات جانبية ، من حليف أو صديق أو متقاطع معه في مصلحة ، إن عدم المعرفة هذه يعني ، الدخول في مقامرة غير محسوبة ، ومنازلة غير معروفة النتائج ، لذلك قيل أن " المعلومات عين القوات " ، ولذلك أيضاً أجاب " رابين " عندما سؤول : لماذا تحكم على قاتل العميل وقاتل اليهودي بنفس الحكم وهو المؤبد ؟ أجاب لأنه بقتله للعميل يفقأ عيني !! ومعرفة العدو ونواياه ؛ مهمة ضباط الاستخبارات والمعلومات ، الذين يطلب منهم توصيف المشهد كما هو ، وكتابة الواقع على حقيقته ، حتى لو لم يعجب المسؤولين ، أو أصحاب القرار . وهنا لا بأس من التذكير بتعريف طريف للحرب عندما عرفّت أنها : موقف يحدث عندما يخطئ الجواسيس (اقرأ ضباط الاستخبارات ) ، ويبالغ الساسة !! وهنا يطول الحديث ، التخصصي والمهني . لذلك فإن عدم معرفة العدو يعني ( عد ومد ) زماناً ومكاناً .
عدم تعرف النصر أو الهزيمة :
ومما يطيل الحرب ويدخلها في نفق مظلم ؛ عدم تعريف النصر أو الهزيمة ؛ نصرك الذي تبغي ، والهزيمة التي تروم لخصمك ، فعدم التعريف الدقيق المبني على علل عقليه ، ومؤشرات وقرائن تعبوية ، قد يجعل المقاتلين يتجاوزون أهدافهم دون الملاحظة ، أو قد يضعون أنفسهم في مواقف لا يرون فيها مؤشرات هزيمة العدو ؛ فيحجمون عن المواصلة ، وإدامة الزخم ؛ فيخفقون حيث كانوا من النصر قريبين ! يجب أن تحدد الأهداف السياسية بدقة ، ليُقدر على تحويلها إلى مهام عسكرية وتعبوية ، ضمن القدرات القتالية الذاتية ، ثم توضع بناء على ذلك معالم النصر ومؤشراته ، و الهزيمة وقرائنها ، وإلّا ؛ فنفق مظلم ، وثقب أسود ؛ قد يبتلع القدرات ، ويودي بالمقدرات ، ويبدد الإنجازات ، كما يمكن أن يتحول فيه النصر إلى هزيمة ، أو العكس ، فالله الله في المصطلحات وتعاريفها ، وما ينبني عليها من مقتضيات فلا ( تشلف شلفا ) ولا تُترك لتفهم ضمناً .
عندما يكون هناك لطرف ثالث مصلحة في بقاء الحرب :
إن المنخرطين في نزاع أو حرب أو معركة ، ولكونهما في خضمها ، ويلفهم غبارها ، قد لا يرون من يشعل أوارها من الخارج ، ومن يصب الزيت عليها ليزيدها اشتعالاً ، بل إن بعض متخذي قرار العمل الخشن ؛ يفوتهم التقدير الدقيق ، ولا يرون مجمل الصورة الكبيرة لـ ( رقعة الشطرنج ) التي ( يلعبون ) عليها ، فلا يرون من يقف ، أو قد يقف خلف عدوهم ، فيمده بأسباب البقاء ، وعناصر القوة لأسباب قد تخفى أو تتجلي ، المهم أن هناك طرف ثالث له مصلحة في بقاء الحرب ، وتمدد زمانها ، واتساع مكانها ، فلا يفتأ يمدها بأسباب البقاء ومسبباته ، عندها حتى وإن أراد طرفي النزاع الخروج من هذا الموقف ؛ فإنهما لن يتمكنا من هذا ، فمن قدم ما قدم لم يقدم لسواد العيون ، ولا كصدقة جارية ، إنما قدمه لتحصيل هدف له يرى أن هذه الحرب أو المعركة تحققه وتنجزه ، عندها يدخل على الخط صحاب هدف قد لا يكون تحقيق هدفه من أولويات كلا طرفي الحرب الذين يكتويان بنارها ، لكنهما لا يقدران على وقف اشتعالها، ولنا في أوكرانيا ، والأزمة السورية ، خير مثال . إن دخول طرف ثالث على حرب لا يعني سرعة حسمها ، ولا تقليل أكلافها ــ وإن كان يصح مثل هذا الاعتقاد ـ ولكن ما هو أهم أخطر ، أن طرفاً ثالثاً دخل في المعادلة ؛ فزادت مجاهيلها ، وتعقدت طرق حلها .
عندما ( تشخصن ) الحرب :
نختم بما نعتقد أنه من الأسباب المهمة في طول زمن الحرب ، واتساع رقعتها ، ألا وهو شخصنة الحرب ، بحيث يرى صاحب القرار فيها أنها أمرٌ شخصي ، يرتبط بها مستقبله السياسي ، أو موقع الاجتماعي والاقتصادي ، فلا يرى أن ما يأخذه من قرارات يتعدى خيره أو شره على باقي أبناء بلده وشعبه ، عندها يُجيّر هذا المسؤول كل ما بين يديه من قدرات ، وما منح له من صلاحيات ، في سبيل بقاء الحرب ، وعدم وقفها ، فهي ( أنبوب ) الأكسجين الذي يستمد منه الحياة ، بل أكثر من ذلك ؛ فإنه يجند كل مطبلي الأرض و ( سحيجتها ) ليطبلوا له ، و ( يسحجوا ) لقراراته ( العظيمة ) و ( لرؤيته ) الثاقبة ، وكيف أنه القائد الهمام ، والبطل الذي لا يضام ، وأنه ( حيشيل الزير من البير) ، فتمتد الحرب ، ويطول زمن المعارك ، ويدخل الموقف في أزمة واستعصاء ، ويا رب فرجك ، فليس لها من دون الله كاشفة .
كانت هذه بعض مفاتح فهم استعصاء المعارك والحروب ، ودخول الدول والشعوب في نفق الحروب المظلمة التي لا يُرى ضوء في آخره ، ولا منتهً لمبدئه . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .