الرئيسية| مقالات وآراء| تفاصيل الخبر

طوفان الأقصى...

المسارات الحرجة شمالاً

04:49 م،04 يوليو 2024

عبد الله أمين

حديث في الأصول والمباني :

لأنها أعقد نشاط يمكن أن يمارسه آدمي ؛ ولأنها تجمع على الصعيد الواحد الشيء ونقيضه ـ قساوة القلب مع العواطف الجياشة ـ ؛ ولأن الخطأ فيها من غير الممكن الرجوع عنه ، ولأنها في كثير من الأحيان غير متوقعة النتائج ، وغير معروفة السقوف والمديات الزمنية ، ولأنه يعرف كيف ومتى وأين بدأت ، ولا يعرف متى وأين وكيف ستنتهي ، ولأنها ، ولأنها ؛ كُتب وسيكتب عنها الكثير الكثير . ولأننا في محضر " طوفان الأقصى " وتداعياته ، ولأن التقديرات والتحليلات فيما يخص جبهة شمال فلسطين وما قد يفضي له تطور الموقف فيها إلى حرب إقليمية ، تجعل غزة وما فيها ومن فيها تفصيلاً لا يُذكر ، ولأن كلا الرأيين القائلين بإمكانية أو عدم إمكانية تطور الموقف شمالاً وصولاً إلى حرب ، لهما من الحجج والمعطيات ما يعضدهما ، ولأن كاتب هذه السطور لا يرى ـ إلى الآن ـ من المعطيات والقرائن والشواهد ما يمكن أن يجعله يقول بإمكانية تطور الموقف على الجبهة اللبنانية ليصل إلى حرب إقليمية ، ولأن التقديرات والتحليلات ما هي إلّا جهدٌ بشري قد يصيب ويخطئ ، بناء على صلابة ودقة المعطيات ، وجودة وكفاءة آليات وأدوات قراءتها وتحليلها وتقدير مآلاتها ؛ ولأن أي موقف قد يدخل عليه ما يعرف في عالم التحليل والتقدير بـ "المسار الحرج " ، أو قد (تحط) في ميدانيه ( بجعة سوداء Black Suan ) تقلبه رأساً على عقب ، لأن الموقف على ما قيل ؛ كانت هذه الورقة التي ستتحدث عن مجموعة من المسارات الحرجة التي قد تدخل على المشهد القتالي في الجبهة الشمالية فـ ( تنعف ) كل ما قيل حوله من تقديرات وتحليلات ، فندخل في حرب غير معروفة النتائج والنهايات . ولكن قبل الدخول في الحديث عن هذه المسارات ، أرى أنه من الضروري الحديث عن بعض الأصول والمباني التي تساعد في فهم الموقف وحل ( طلاسمه ) ، كما أنها ـ المباني والأصول ـ مفيدة في تكوين أرضية مفاهيمية ، تقرب وجهات النظر ، وتحد من شقة الخلافات التي تعتري كثيراً من جلسات الحوار والنقاشات .

أولاً : في الحرب وتعرفيها وقرار بدئها :

قيل الكثير في تعريف الحرب ، وكيف ولماذا يؤخذ قرار شنها ؛ ولكن خير ما قيل في شأنها أنها تقع عندما ، يبالغ الساسة ، ويخطئ الجواسيس ( اقرأ ضباط الاستخبارات والمعلومات )! . نعم ؛ تقع الحرب عندما يبالغ الساسة في : الرفع من شأن المصلحة المراد تحقيقها ، فتوصف على أنها مسألة حياة أو موت ، وهي ليست كذلك ! أو عندما يصفون التهديد بأنه من النوع الخارق الحارق المتفجر ، الذي يجب لرده من تعبئة القوات ، و تجريد الحملات ؛ وهو عن هذا التوصيف قد يكون بعد . كما أنهم (يورطون ) الأمة والشعب في حرب لا طائل منها عندما يبالغون في ثقتهم بأنفسهم ، ويتعامون عن مكامن الخطر الذاتية ، بكثير من اللامبالاة والسطحية ؛ فيفتحون حرباً قبل سد هذه الثغرات ! أو قد يندفعون نحو الحرب عندما يبالغ أحدهم أو كلهم في تحقير الخصم والتقليل من شأنه ، وأن القضاء عليه ودفعه نحو الاستسلام أمرٌ ممكن ومقدور عليه . أما أم ( الخبائث ) في المبالغات فهي مبالغة السياسي أو القادة في الاعتداد بالرأي ، وأن لا شيء عند الآخرين يمكن الاستفادة منه ، وأنهم فريدوا عصرهم ووحيدي دهرهم ، وما على الأمة إلا اقتفاء أثرهم والسير على نهجهم . أما عن خطأ الجواسيس ؛ فهم قد يدفعون إلى حرب إن هم أخطأوا في فهم و(هضم ) المهمة التي أسندت لهم ، عندها سيخطؤون ـ حكماً ـ في جمع المعطيات والمعلومات عنها ، ومن ثم تحليلها واستخلاص النتائج منها ، كما أنهم سيسوقون الأمة أو الشعب إلى حرب إن هم أخطأوا في قراءة المشهد الكلي للموقف محل البحث . أما أم الخطايا والرزايا التي يقع فيها ضباط الاستخبارات فهي : عدم القدرة ، أو الخطأ في قراءة نوايا العدو وما يمكن أن يُقدم عليه هو ابتداءً كفعل مبارد ، أو انتهاءً كرد فعل على فعل ضده مبادر . نختم فيما يخص الحرب فنقول : أن أحداً لا يمكن أن يقدم على أخذ قرار حرب ما لم يكن لديه تقدير أقرب إلى الدق والصحة بأن حربه سوف تكون سريعة ، وحاسمة ، ومضمونة النتائج ، ومُحققة للأهداف ، وأن جدواها أكبر بكثير من أكلافها . ولأن الحروب والمعارك تُقيّم بناء على نتائجها والأهداف التي شُنت من أجل تحقيقها ، وليس بناء على ما قدم أو يقدم فيها من تضحيات ، لأنها كذلك ؛ تُعرض على ما تقدم من معايير وموازين ، قبل التشمير لها ، والخوض في غمارها ، والاختفاء في نقيعها وغبارها .

ثانياً : في التحليل والتقدير :

أما في شق التحليل والتقدير ، فإن التقديرات والتحليلات تبنى على المعلومات والمعطيات ، ففي الوقت الذي يتوفر لدى منظومة صناعة القرار معلومات صلبة ، ومعطيات دقيقة ؛ فإنها تستطيع اقتراح طريقة عمل ، أو التوصية بأخذ قرار أو توجه معين ، أما إن لم يكن لدى هذه الجهات ما يسعف من حقائق ومعلومات ؛ فأنها تذهب باتجاه وضع وبناء السيناريوهات ، وهذا مبحث تخصصي تفصيلي فيه حديث كثير ، ليس هنا مكانه بسطه . وفي عالم التحليل والتقدير ؛ تحضر فرضية عقلانية الطرف الآخر ، بمعني أن الطرف المقابل لن يأخذ قرارات أو توجهات غير عقلانية أو ( انتحارية ) ، هذا ـ افتراض عقلانية الطرف الآخر ـ أمر مهم ولا يجب أن يُغفل عنه ؛ ولكن عندما تُسدد للخصم ضربة قاسية ، تُطيش عقله ، وتُطّير ( البرج الظايل من مخه ) عندها لا تتوقع عقلانية ولا عقلاء ؛ بل توقع من العدو تصرفاً مجنوناً لا عقلانية فيه ، يصعب معه معرفة نواياه المستقبلية أو ضرباته الانتقامية . ونختم هنا أيضاً بأصل مهم في التقدير ألا وهو أن الاستعدادات والتحضيرات والإجراءات تبنى على أسوء التقديرات ، وليس على أفضلها ، أو على الرغائب والأمنيات ، فإن وقع المحظور ؛ فـ (الخير فيما وقع ) ، وقد احتطنا وتهيئنا له ، وإن لم يقع ؛ فـ ( كله خير ) ، وكفى الله المؤمنين القتال .

كانت هذه بعض الأمور في المباني والأصول ، التي نعتقد أنها مفيدة كما قلنا في بناء قاعدة مفاهيمية ، تساعد على الفهم والقراءة الصحيحة .

المسارات الحرجة شمالاً :

أما عن أصل الورقة ، والهدف منها ، ألا وهو الحديث عن المسارات الحرجة ، و( البجع الأسود) الذي قد يحط رحاله في جبهة الشمال ، فـ ( ينعف ) كل ما قيل من تقديرات أو تحاليل ، ويدفع الجميع إلى التصرف بلا عقلانية ، فهي أمور عدة ، قبل أن نشرع بذكرها ، نُذكّر بأنها يمكن أن تُسقط على كلا طرفي معادلة الحرب في الشمال ، عنينا بهما ؛ " حزب الله " ومن خلفه من قوى مقاومة ومحور ممانعة ، والعدو الإسرائيلي ومن خلفه من حلفاء ومؤازرين ، أما عن أهم المسارات الحرجة فقد تتمثل بــــ :

  • ضربة تفضي إلى مقتل قادة من الصف الأول :

أول المسارات الحرجة التي قد تفضي إلى خروج الموقف عن السيطرة ، وكسر ما ضبطه إلى الآن من ضوابط وقواعد اشتباك هو : سقوط قتلى من قادة الصف الأول لدى المتحاربين ، ففي العرف العسكري المنضبط والمتفق عليه ــ غزة استثناء ـ أنه في العادة لا يتم المس بقادة الصف الأول لدى كلا طرف الحرب ، لاعتبارات كثيرة ؛ منها أنهم العناوين التي تُقصد للحديث معها من أجل وقف التصعيد أو ضبطه ، ف غُيبت هذه العناوين ؛ فسوف ( تضيع الطاسة ) ، وسيتعذر الحل ، ويستعصي الموقف ، لذلك مثلاً نرى قادة العدو العسكرين والسياسيين ، يسرحون ويمرحون في شمال فلسطين المحتلة ، فتحط طائراتهم ومروحياتهم في المنطقة ، مطمئنين ومُطمئنين ، ثم يقفلوا راجعين . ف كسر هذا (السد) شمالاً ؛ قد نكون أمام طوفان هادر ، لا ولن يُعرف مساره أو مصيره أحد .

  • ضربة توقع خسائر ذات مصداقية في الأصول البشرية أو المادية :

ومن المسارات الحرجة أيضاً ؛ ضربة توقع خسائر كبيرة ، وغير محتملة لدى أي من الطرفين ، وهنا يحضر مشهد ( هدهد ) المقاومة الإسلامية ، بمعنى أن هذه الأهداف كانت وما زالت ، وستبقى في مرمى نار " حزب الله " وهي ليست بحاجة إلى نيران دقيقة لتدميرها ، فهي منشورة على مساحات واسعة تجعل منها "أهدف منطقة " وليست "أهدف نقطة " ، ويمكن الحاق أضرار ذات مصداقية بهذا الأهداف ، وبأقل الأكلاف ، ولكن المانع ، هو عقلانية " حزب الله " . وفي المقلب الآخر ؛ فالأهداف البشرية والمادية المؤثرة في الساحة اللبنانية كثيرة ، لا تبدأ بمطار بيروت الدولي ، ولا تنتهي بمرفئها ، مروراً بكل محاطات توليد الطاقة ، وخزانات النفط ومشتقات ، فضلاً عن أهم كتلة بشرية داعمة لـ "حزب الله " في الضاحة الجنوبية ، كلها أهداف يقدر العدو الصهيوني على تدمريها ، والحاق أضرار بها إن أراد ، ولكن ما يمنعه بعض من العقل باق في رأسه ، وكثيرٌ من الرعب من عدوه وحلفائه . ضربة قد توقع خسائر في مراكز ثقل عسكرية ذات بعد استراتيجي :

تُستهدف مثلاً وزارة دفاع العدو ، أو مقر قيادة جيشه ورئاسة أركانه ، أو تُضرب لـ " حزب الله" غرفة عمليات مركزية تجمع كبار قادته العسكريين ، أو ضيوفه والمستشارين ، أو أن يشن العدو ضربة على مستودع للمقاومة يحوي قدرات ذات طابع إستراتيجي مؤثر على المسار الكلي للحرب وتطورها ؛ عندها سيُرد على ضربة العدو بضربة تشبهها ، فيرتفع منسوب الخطر ، وندخل في مسار لا يمكن التكهن بخواتمه ، قد يفضي إلى حرب كما قال الأمين العام لـ "حزب الله " السيد حسن نصر الله ، بلا سقوف ولا ضوابط ولا حدود .

  • تجمع معطيات صلبة عن النية بالمبادرة إلى توسيع الحرب :

ومن ( البجع الأسود ) الممكن أن يحط في ميدان المعركة ؛ تجمع معلومات صلبة ، ومعطيات حقيقية عن نية العدو بـ ( المبادرة ) إلى توسيع الحرب شمالاً ، أو توفر قراءة ذات مصداقية عند العدو تقول أن " حزب الله " قد أخذ قراراً بالهجوم جنوباً ، وتخطي الحدود في ( طوفان ) بشري وناري ، يعيد القرى السبعة ـ مثلاً ـ إلى لبنان . إن مثل هذا القراءة المبنية على مثل هذه المعلومات الصلبة ، قد تدفع بالمشهد إلى حدود اللا متوقع واللا معقول .

  • حسابات خاطئة في توقع رد الفعل على فعل :

أما آخر المسارات ، والسود من (البجعات) ، فهي حسابات خاطئة لرد فعل على فعل ، كأن يخطئ (جاسوس ) لدى أحد الطرفين ، فيقدم تحليلاً رغائبياً ، أو تقديراً ( خنفشارياً ) مبني على قراءة سطحية لأخبار غير ذات مصداقية ، فتوضع على طاولة سياسي صحاب قرار فاقد للأهلية ، فلا يدقق ، ولا يستفسر ، ولا يسأل الأسئلة الصعبة ، ويكتفي بهز الرأس والأكتاف ؛ فتفتح فوهات النار ، ويطلق العنان لآلات القتل والدمار ، ومن أخطأ له أجر ، ومن أصاب له أجران !!! ويا ( دار ما دخلك شر ) ، هذا إذا بقيت دار .

الخلاصة :

نختم بخلاصة سريعة تقول : لا تدعوا الساسة يبالغون ، ولا (الجواسيس) يخطؤون ، ودققوا فيما يقولون ويشرحون ، ولتُسأل الأسئلة الصعبة ، ورحم الله المتنبي عندما قال :

الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني

فَإِذا هُما اِجتَمَعا لِنَفسٍ حُرّةٍ بَلَغَت مِنَ العَلياءِ كُلَّ مَكانِ

وَلَرُبَّما طَعَنَ الفَتى أَقرانَهُ بِالرَأيِ قَبلَ تَطاعُنِ الأَقرانِ