كارثة إنسانية متعددة الوجوه في قطاع غزة

إحاطة معلوماتية غزة في ظلِّ الحرب.. وجوهٌ أُخرى للكارثة

09:28 ص،14 فبراير 2024

في ظلِّ حرب صهيونية عدوانية بدأت شهرَها الخامس، تتفاقم كارثة إنسانية متعددة الوجوه في قطاع غزة، من شماليِّه حتى جنوبيِّه، فلَم تَعُد أزمة الغزيِّين تقتصر على عدد مَن قتلتهم الحرب، وقد زاد عددهم على 27,500 شهيد، بل تعدَّت ذلك إلى أزمة الأحياء و"من لم يُستشهَد بَعد".

فإلى جانب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها قطاع غزة، والمجازر المتواصلة والقصف والاعتقالات والتعذيب وقنص المدنيين في الشوارع والبيوت والمستشفيات ومحاصرتها، وتلقِّي التهديدات بالقتل والإجبار على النزوح، واستهداف النازحين في الأماكن التي أخبر الاحتلالُ بأنها "آمنة"، واستهداف الأطباء والصحفيين، يعيش الغزيُّون معاناةً يوميةً تبدأ من لحظة الاستيقاظ ولا تنتهي بالنوم الذي لا يكون إلا على وقع القصف وفي قسوة البرد الذي ينهش الأجساد.

تحاول هذه الورقة، من إعداد برنامج الرصد والتوثيق في مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، تسليطَ الضوء على بعض ملامح الكارثة الإنسانية في قطاع غزة بعد أكثر من أربعة شهور على الحرب ضد القطاع المحاصَر، راح ضحيتها نحو 43,238 بين شهيدٍ ومفقود، ونحو 76 ألف جريح، ونحو 2,000,000 نازح، وارتُكِبَت في خلالها أكثر من 2,325 مجزرة.

 

معاناةٌ يومية

يعاني قطاع غزة من شحِّ المياه الصالحة للشرب، والنقص الحاد في الغذاء، والوصول إلى حافة المجاعة في محافظتَي غزة والشمال، وشحِّ المياه الصالحة للاستخدام الآدمي لأغراض النظافة الشخصية وغيرها، وشحِّ السلع الأساسية والمستلزمات الطبية والأدوية ونقص الوقود وانعدام وسائل المواصلات وانقطاع الاتصالات، وانتشار الأمراض والأوبئة وعدم توفر العلاج، والنقص الشديد في الكوادر الطبية في القطاع خاصةً في مدينة غزة والشمال بعد أن أُجبِر عدد كبير من الأطباء والعاملين في المجال الطبي على النزوح إلى جنوبي القطاع واستشهاد آخَرين، عدد منهم استُهدِف وهو على رأس عمله، وأعداد النازحين الضخمة في مراكز الإيواء والمدارس والمستشفيات والخيام التي لا تقي من البرد والمطر، وفقدان السكان ممتلكاتهم وفقدانهم أدنى مقومات الحياة اليومية، وانعدام الخصوصية، وفقدان العمل وانعدام الدخل وفقدان القدرة على الالتزام بالعمل بسبب ظروف الحرب، وغلاء الأسعار الفاحش حتى فيما يتعلق بمستلزمات المعيشة الأساسية.

ملامحُ مجاعةٍ تلوح في الأفق

بدأت ملامح مجاعةٍ بالظهور بالفعل في محافظتَي غزة والشمال، وصفها مسؤولو الإغاثة في الأمم المتحدة بأنها من بين أعلى مستويات الأمن الغذائي المسجَّلة تدهورًا، حتى أنَّ كثيرًا من الأهالي اضطُّر إلى طحن علف الحيوانات لتوفير الخبز لإطعام أبنائهم بديلًا عن الدقيق الذي لا يتوفر هناك، على الرغم مما يصل من المساعدات الإنسانية، التي لا تكفي أصلًا لسدِّ الحد الأدنى من احتياجات السكان في القطاع، والتي لا تصل مطلقًا إلى مدينة غزة والشمال.

وقد حذَّرت جهات محلية ودولية من تفاقم الجوع في قطاع غزة، ولا سيما بعد تعليق دول عديدة دعمها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا". وكان الأمين العام للأمم المتحدة، "أنطونيو غوتيريش"، قد عزا الأمرَ إلى أنَّ الأمم المتحدة "لا تستطيع تقديمَ المساعدات الإنسانية تقديمًا فعَّالًا بينما تتعرَّض غزة لمثل هذا القصف العنيف المتواصل واسع النطاق".

 

أوبئة وأمراض تَنهش أجسادَ الغزيِّين

إضافةً إلى تجاوُزِ عدد الجرحى 67,000 جريح، يحتاج 60% منهم إلى العلاج في الخارج، حسب الهلال الأحمر الفلسطيني، ويعرقل الاحتلال خروجهم، فقد انتشرت الأمراض والأوبئة في قطاع غزة انتشارًا واسعًا، ولا سيَّما الأمراض التنفسية، خاصةً مع الاكتظاظ الكبير للنازحين، وتدنِّي مستويات النظافة الشخصية والاستحمام، واستخدام المراحيض المشتركة، وشحِّ المياه الصالحة للشرب والاستخدام الآدمي، وتدمير البنية التحتية للصرف الصحي، وانتشار النفايات في الأماكن العامة ومراكز النزوح، والتلوث، ومع نقص الغذاء، والاعتماد على الأغذية المعلَّبة، ونقص الدواء، ومع تراجُع القدرة الاستيعابية للمستشفيات، وخروج معظم مستشفيات قطاع غزة بالفعل عن الخدمة منذ الأسابيع الأولى للحرب على غزة، بفعل القصف والحصار وشح الوقود ونفاد الأدوية والمستلزمات الطبية والكوادر الطبية. وما يزال ما تبقَّى من المستشفيات ومراكز العمل الصحي يكافِح للاستمرار في العمل لتوفير حدٍّ أدنى من الخدمات للجرحى والمرضى، غير القادرين على تلقِّي العلاج والذين لا يجدون في الغالب سيارات إسعاف أو أية وسيلة تنقلهم إلى تلك المستشفيات، فيما تحاصر قوات الاحتلال عددًا مما تبقَّى منها.

يواجِه المرضى الذين يعانون من الأمراض الزمنة معاناةً مضاعَفةً في ظلِّ الحرب، تضعهم في مواجَهةٍ مع موت محقَّقٍ أو مضاعفات خطيرة جدًّا على الأقل، فمثلًا غالبية أدوية الضغط والسكَّري غير متوفرة، وأدوية الربو والسرطانات نادرة، ويبلغ عدد مرضى السرطان في قطاع غزة نحو 10,000 مريض، كان أكثر من ألفَي مريضٍ منهم ينتظرون التحويلات الطبية قبل الحرب للعلاج في مستشفيات الضفة الغربية والقدس المحتلتين وفي مستشفيات الدول المجاورة، لم يتمكنوا بسبب الحرب من السفر واستكمال العلاج، ما أدى إلى وفاة معظمهم في خلال الحرب، حسب تقارير.

ووفق نائب مدير عام الرعاية الأولية للصحة العامة في غزة، رامي العبادلة، بلغ مجموع الحالات التي سُجِّلَت لدى وزارة الصحة لأمراض وبائية ومُعدية نحو 553,000 إصابة في الفترة بين 28 من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى 8 من كانون الثاني/يناير 2024، إذ بدأت الوزارة في عملية الرصد الوبائي من جميع أنحاء قطاع غزة من 24 من تشرين الأول/أكتوبر حتى 8 من كانون الأول/يناير الماضيَين، وبدأت بينات الرصد تتقلص نتيجة الهجمات الصهيونية وتدمير العديد من مراكز الرعاية الأولية، ويجري حاليًّا -بصعوبة بالغة- تجميعٌ لبيانات من عيادات رفح الحكومية ومن مراكز الإيواء التابعة لوكالة "أونروا". وتجدر الإشارة إلى أنَّه توجَد أمراض وحالات لم تشخَّص بسبب عدم توفر الفحوصات المخبرية أو عدم القدرة إلى الوصول إلى المرضى أو وصول المرضى إلى المستشفيات والمراكز الصحية.

ويشير بيان لمنظمة مرضى الإيدز الأمريكية إلى التدهور المتسارع في كفاءة المستشفيات والبنية التحتية للرعاية الصحية في قطاع غزة وتأثيره المدمر على الصحة العامة هناك، ويضيف البيان أنه نتيجةً لهذا التدهور رُصِدَ أكثر من 8,000 حالة عدوى التهاب كبد وبائي، وزادت معدلات الإجهاض بنسبة 30%، إلى جانب تفشِّي أمراض أخرى مثل الكوليرا والإسهال والتهابات الجهاز التنفسي وسوء التغذية واضطرابات ما بعد الصدمة. كما يشير البيان إلى عمليات التهجير الممنهَج والمجاعة التي يتعرض لها قطاع غزة.

أمراض الجهاز التنفسي

480,000 حالة

(من بينها 234,364 حالة التهاب رئوي)

الإسهال

170,794 حالة

الأمراض الجلدية

140,000 حالة

التهاب الكبد الوبائي من النوع "A"

أكثر من 8,000 حالة

(بينهم 6,723 إصابة لأطفال)

إصابات بالتقمُّل

3600,000 حالة

 

 

*من الأمراض الوبائية والمُعدية المسجَّلة في قطاع غزة حسب وزارة الصحة الفلسطينية من 28/10/2023-08/01/2024، إلى جانب حالات الحصبة وأمراض مُعدية أخرى.

تكدُّسٌ سكانيٌّ في رفح يفاقِم الكارثة

تستمر موجات النزوح إلى محافظة رفح، التي كان يقطنها قبل الحرب نحو 300,000 نسمة، مع استمرار العمليات العسكرية البرية والقصف العنيف والعشوائي في بقية المحافظات، فصارت المدينة تأوي نحو نصف سكان القطاع، إذ وصل عدد النازحين الذين تكدَّسوا في رفح نحو مليون ونصف المليون نازح، ما دفعهم إلى نصب خيام عشوائية في الطرقات والشوارع ومواقف السيارات وفي مناطق صحراوية لا تصلح للحياة.

وقد صرَّح المتحدث باسم الصليب الأحمر في وقتٍ سابقٍ بأنه "من المستحيل تحقيق أية استجابةٍ إنسانيةٍ فاعلةٍ على أرض الواقع يمكن أن تُحدِثَ تغييرًا إيجابيًّا ولو بسيطًا في جنوب غزة"، وبأنه "من الصعوبة البالغة توفير الاحتياجات الإنسانية على الرغم من الجهود المبذولة، لأنَّ الاحتياجات أكبر بكثير من القدرة الاستيعابية للفرَق العاملة".

وحسب لجنة الطوارئ الصحية في رفح، وبسبب ظروف الحرب وعدد السكان الحالي الضخم وتفشِّي الأوبئة وانعدام القدرة على متابعة أصحاب الأمراض المزمنة، فإنَّ المدينة تشهد ارتفاعًا كبيرًا في معدل الوفيات في يقدَّر الآن بـ30-40 حالة وفاة يوميًّا، مقارنةً بمعدل وفيات كانت تشهده المدينة بواقع 5 حالات يوميًّا.

شكَّل عدد النازحين الضخم في مدينة رفح ضغطًا هائلًا على مستشفى أبو يوسف النجار، المستشفى الحكومي الوحيد في المدينة، وحسب د. مروان الهمص، رئيس لجنة الطوارئ ومدير أبو يوسف النجار، فإنَّ وحدة غسيل الكلى الوحيدة في المدينة كانت تتعامل مع مِائة وعشر مرضى، ارتفع عددهم إلى 525 مريضًا، والوحدة التي لا تمتلك إلَّا 8 أجهزة فقط وجميعها منتهية الصلاحية، اضطُّرت إلى تقليص عدد مرَّات الغسيل الأسبوعي لكل مريض إلى مرَّتين فقط.

 

معاناةُ النساءِ المضاعَفةُ في ظلِّ الحرب

على الرغم من أنَّ سكان غزة جميعهم يعانون، فإنَّ معاناةَ النساء في القطاع -المتراكمة أصلًا والتي تنتجها المجتمعات بسبب الجهل والفقر والذكورية والاحتلال وغيرها من الأسباب- معاناةٌ مضاعَفةٌ تفاقمت في ظل الحرب، بسبب الظروف المادية والاجتماعية وغيرها، وبسبب نقص المستلزمات والأدوات والمواد الصحية النسائية، إلى جانب نقص حفاضات الأطفال والألبان والمقويَّات والمكمِّلات الغذائية اللازمة لصحة الأم والطفل لمساعدة الأمهات في غزة في رعاية أطفالهنَّ في مثل هذه الظروف.

تَحمل النساءُ عبئًا إضافيًّا لِما لا يقلُّ عن خمسة أيام في كل شهر، تزيد صعوبتها في ظل الحرب، لأسباب منها نقص الفوط الصحية اللازمة لتجاوُز دوراتهنَّ الشهرية، حتى لجأت كثير من السيدات إلى استخدام أقراص منع الحمل لتأجيل مواعيد الدورة الشهرية، لكن ذلك لم يسبِّب إلَّا مزيدًا من المعاناة الصحية لهنّ، ما اضطرَّهنَّ إلى التوقف عن ذلك، ولجأت سيدات أخريات إلى استخدام قطع قماش وقطع ملابس ومناديل ورقية وقصاصات كرتون وغيرها لتكون بديلًا، لكنَّ هذه الأدوات الملوَّثة -أو غير المعقَّمة على الأقل- تتسبب بعدوى بكتيرية قد تسبِّب التهاباتٍ في الحوض وتسمُّمًا في الدم وسرطانًا في عنق الرحم وقد تسبِّب العقم.

تسبَّبت الحرب الصهيونية بفقدان النساءِ أجنَّتَهنَّ بسبب الإجهاض أو بسبب استشهاد الأم أو جنينها أو كليهما على يد آلة القتل الصهيونية، أما السيدات الحوامل الناجيات فيواجهن مخاوف الولادة ومخاطرها في ظل غياب الرعاية الصحية في خلال عمليات الولادة وما بعدها، وبسبب عدم توفر الأدوات الصحية اللازمة لعمليات الولادة وأدوات التنظيف والتعقيم، حتى أنَّ تلك العمليات -ومنها عمليات قيصرية- تجري دون مسكِّنات أو تخدير، وكثير منها لا يجري في مستشفى، حتى أنَّ المديرة الإقليمية لصندوق الأمم المتحدة للسكان في الدول العربية، ليلى بكر، قالت إنَّ السيدات الحوامل في غزة مع سباق مع الموت.

ووفقًا لممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان، الوكالة الدولية التي تعمل على تعزيز حقوق النساء فيما يتعلق بالصحة الإنجابية، بلغ عدد السيدات الحوامل في قطاع غزة في بداية الحرب الحالية 50,000 سيدة، 5,000 منهم كان من المفترَض أن يضعن حملهنَّ في نوفمبر 2023. وتخضع نحو 180 سيدةً يوميًّا لعمليات ولادة في قطاع غزة، وثمة أعداد مهولة منهنَّ يلدن قبل موعد الولادة المفترَض بسبب ظروف الحرب، في ظل عدم توفر الوقود اللازم للحاضنات الخاصة بكل أولئك الأطفال الخدَّج الذين يولدون يوميًّا.

 

خاتمة

خلَّفت الحرب الحالية ضد قطاع غزة، بعد حروب كثيرة، إلى جانب ما سبَّبته من قتل ودمار وإبادة، كارثةً إنسانيةً بدأت منذ الأسبوع الأول من الحرب ضد القطاع المحاصَر أصلًا، وما تزال تتفاقم، ودمارًا ماديًّا وآثارًا نفسيةً لن تُمحَى من أرواح الفلسطينيين وذاكرتهم الجمعية وذاكرة كل فرد منهم، وستظلُّ تبعاتها تخيِّم على القطاع وسكَّانه حتى سنواتٍ قادمة، في ظلِّ احتلال همجي ومجتمع دولي ظالم متواطئ، وفي ظلِّ مخططات التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية وعلى رأسها قضية اللاجئين، لتولَد نكبةٌ فلسطينيةٌ جديدةٌ بعد ستة وسبعين عامًا مرَّت على نكبة العام 1948، لكنَّها هذه المرَّة على مرأى ومسمع العالَم أجمَع.

 

برنامج الرصد والتوثيق

مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي