أولاً/ المقدمة:
يأتي مشروع القرار الأمريكي المطروح على مجلس الأمن الدولي بخصوص قطاع غزة في مرحلة مفصلية من مسار الحرب المستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفي سياق تفاوضي ودبلوماسي بالغ التعقيد يتقاطع فيه الأمني بالسياسي والدولي بالإقليمي، ويجري توظيفه ضمن تصورات أوسع تتصل بإعادة هندسة المشهد الفلسطيني وتحديد طبيعة "اليوم التالي" في غزة.
وكان واضحًا من خلال المعطيات السياسية الراهنة أن فرص تمرير المشروع داخل مجلس الأمن عالية جدًّا، في ظل الميل الدولي العام إلى تبنِّيه، وغياب مؤشرات قوية على إمكانية استخدام حق النقض (الفيتو) ضده، خاصة بعد التحول في الموقف العربي–الإسلامي ودعمه للنسخة المعدَّلة الأخيرة من المشروع.
ويستند المشروع في جوهره إلى فرض صيغة جديدة لإدارة قطاع غزة تتجاوز صيغة الاحتلال المباشر دون أن تنهيه فعليًّا، وتؤسِّس لتحويله إلى وصاية دولية انتقالية مفوَّضة عبر إنشاء ما يسمى بـ"مجلس السلام" بصفته إدارة حكم مؤقتة ذات شخصية قانونية دولية، تتولى صلاحيات واسعة في الإشراف والتمثيل والإنفاذ، بما في ذلك إدارة الكيانات التشغيلية، وتنسيق المساعدات، وإعادة الإعمار، وتحديد الأطر المؤسسية للحكم المحلي، وصولًا إلى الإشراف على عملية نزع السلاح بالتنسيق مع قوة دولية للإنفاذ والاستقرار.
ويمثل المشروع تحولًا كبيرًا في طبيعة التفكير الدولي تجاه غزة، لا لكونه مشروعًا لوقف الحرب أو إعادة البناء فحسب، بل بصفته مشروعًا لإعادة هندسة البيئة السياسية والأمنية الفلسطينية من خلال نزع وظائف السيادة، وإعادة تعريف الفاعل الإداري، وتحديد مستقبل المقاومة، وربط أي أفق سياسي بفكرة الدولة المشروطة بإصلاحات داخلية ومسار تفاوضي مفتوح بلا سقف زمني ولا ضمانات تنفيذية واضحة.
وانطلاقًا من ذلك، تسعى هذه الورقة إلى تحليل بنية المشروع ورصد دلالاته السياسية والقانونية، وتفكيك ما ينطوي عليه من مخاطر استراتيجية على مستقبل النظام السياسي الفلسطيني، مع استشراف للمستقبل في ضوء القرار.
ثانيًا/ بنية مشروع القرار ومقولاته الأساسية:
يتأسس مشروع القرار الأمريكي، بعد التعديلات التي أدخلت عليه في نسخته الثانية، على خمسة مرتكزات أساسية، تشكِّل الإطار المفاهيمي والتنفيذي للنظام المقترح لإدارة قطاع غزة في خلال المرحلة الانتقالية، وبما يؤسس لصيغة حكم جديدة محكومة بمتغيرين رئيسيين: الوصاية الدولية الانتقالية، وإعادة تعريف الفاعل الإداري والسيادي في غزة.
ويظهر من القراءة الدقيقة للقرار، وخاصة بعد التعديلات، أن النص أصبح أكثر قابلية للتوافق الدولي والعربي، لكنه لم يصبح أكثر وضوحًا أو التزامًا بالمعايير السيادية الفلسطينية. ويمكن تلخيص أبرز مكوناته وفق البنود التالية:
1- تثبيت وقف إطلاق النار بوصفه التزامًا مرجعيًا
أدخلت الولايات المتحدة تعديلًا على البند الأول لتثبيت الالتزام بوقف إطلاق النار من قبل الأطراف الموقِّعة، وهو تعديل يعكس حاجة واشنطن إلى تأطير الزخم الدبلوماسي في اتجاه إنهاء العمليات العسكرية دون إنهاء حالة الحرب سياسيًّا. وهذا يعني أن وقف إطلاق النار يتحول إلى شرط تشغيلي وليس اتفاقًا نهائيًّا ملزمًا، ما يبقي الباب مفتوحًا لإعادة تعريف التهديدات والاشتباكات مستقبلًا تحت سقف النص.
2- الإشارة لأول مرة إلى مسار يقود نحو دولة فلسطينية (غير محدَّدة المعالم)
تضمن البند الثاني تعديلًا محوريًّا عبر إضافة عبارة "مسار موثوق نحو تقرير المصير وقيام دولة فلسطينية" بعد تطبيق إصلاحات شاملة داخل السلطة الفلسطينية والتقدم في إعادة تطوير غزة. ويكشف هذا البند عن ثلاثة عناصر تفسيرية بالغة الحساسية:
- الدولة مشروطة لا مستقلة، وتأتي نتيجة عملية إصلاح لا نتيجة حق تقرير مصير قائم بذاته.
- الدولة لا تُعرَّف في النص من حيث الشكل أو الحدود أو الإطار الزمني.
- الولايات المتحدة تتولى إدارة مسار حوار ثنائي تحت سقف التعايش والازدهار، لا تحت سقف إنهاء الاحتلال.
وبهذا التعديل، ينتقل النص من مقاربة تحسين الإدارة في غزة إلى تأسيس مسار سياسي طويل الأمد دون ضمانات أو مرجعيات فلسطينية أو دولية حاكمة.
3- إعادة تعريف مجلس السلام بوصفه إدارة انتقالية لا حكومة انتقالية
أُجري تعديل جوهري على توصيف مجلس السلام ليصبح إدارة حكم انتقالية ذات شخصية قانونية دولية، وهو تعديل يبدو تصالحيًّا لغويًّا، لكنه لا يغيِّر جوهر الصلاحيات؛ فما يزال المجلس يمتلك صلاحيات تنفيذية واسعة تشمل التخطيط، والإشراف، والتمويل، والتعيين، والمراقبة، وإدارة الكيانات التشغيلية.
الفرق إذن شكليٌّ لا وظيفي، الهدف منه تليين حساسية المصطلح سياسيًّا وتمريره تفاوضيًّا، لا تقليل صلاحيات المجلس.
4- حذف الفقرة العقابية ضد المنظمات الإنسانية
حُذفت الفقرة التي كانت تمنح صلاحية استبعاد منظمات إنسانية بحجة إساءة استخدام المساعدات، وهو تعديل تجميلي وإنساني الطابع، يهدف إلى:
- خلق صورة دولية إيجابية حول المشروع.
- طمأنة الأطراف الإقليمية والدولية التي ترى في هذا النص تجاوزًا لمسؤوليات الحماية الإنسانية.
- تقليل احتمالات الاعتراض الأممي والحقوقي.
لكن جوهر التحكم في المساعدات لم يتغير، وظل مرتبطًا بمبدأ الاستخدام السلمي للمساعدات ومنع تحويلها، وهي صياغة قابلة للتأويل الأمني الإسرائيلي.
5- ترسيخ بنية الكيانات التشغيلية تحت سلطة مجلس السلام الانتقالي
أضيفت كلمة "انتقالية" إلى مرجعية الإشراف، بهدف تجميل السياق السياسي، لكن طبيعة السلطات الممنوحة لهذه الكيانات لم تتغير، إذ إنها ما تزال أدوات تنفيذية غير سياسية، تخضع بشكل كامل لمجلس السلام، بما يشمل:
-الإدارة المدنية والخدمات.
-إعادة الإعمار.
-إدارة المساعدات.
-تنظيم حركة السكان.
-أدوار وظيفية إضافية.
ما يعني أن المجلس يمارس صلاحيات السلطة التنفيذية الموازية للدولة دون أن يكون دولة.
6- تعديل صيغة الانسحاب الإسرائيلي وربطه بتحقيق السيطرة والاستقرار
التعديل الأهم والأكثر دلالة ورد في البند السابع من خلال إضافة عبارة: "ومع تحقيق القوة الدولية السيطرة والاستقرار"، وبذلك يصبح الانسحاب مقيدًا بشروط أمنية مفتوحة لا زمنية، ترتبط بثلاثة محددات:
-نزع السلاح.
-التقييم المشترك مع "إسرائيل".
-القدرة التشغيلية للقوة الدولية.
وبذلك يتحول الانسحاب من التزام زمني إلى نتيجة قابلة للتأجيل غير المحدود.
وبناءً عليه، تَكشف بنيةُ النص وتعديلاتُه أن المشروع لم يتحول إلى حل سياسي سيادي بمقدار تحوُّله إلى إطار تنظيمي مرن وقابل للتطويع، يضمن مرور المشروع دوليًّا دون تقديم ضمانات سياسية جوهرية أو مرجعيات قانونية واضحة، ويعيد إنتاج إدارة دولية-أمنية طويلة الأمد ذات طابع إنشائي لا تحرري.
ثالثًا/ مجلس السلام بوصفه صيغة وصاية دولية بديلة عن الاحتلال
يُعد إنشاء "مجلس السلام" البند الأكثر مركزية في مشروع القرار، لا من حيث الدور التنفيذي الذي سيؤديه فحسب، بل من حيث التحول البنيوي الذي يكرسه في طبيعة الفاعل الإداري والسيادي في قطاع غزة في خلال المرحلة الانتقالية أيضًا.
فالمجلس –وفق النص– يتمتع بـ"شخصية قانونية دولية" وصلاحيات تتجاوز مجرد التنسيق أو الرقابة، وصولًا إلى دور السلطة التنفيذية العليا التي تشرف، توجِّه، وتموِّل، وتفوِّض جهات أخرى لإدارة غزة، إلى حين تحقق "شروط الإصلاح" المعتمدة خارجيًا.
ومن القراءة النصية غير المؤوَّلة، يتضح أن مجلس السلام يؤدي دورًا موازيًا أو بديلًا للسلطة السياسية الشرعية، وليس دورًا مساعدًا أو مؤقتًا خاضعًا لها، وذلك عبر خمسة مرتكزات رئيسية:
1- شخصية قانونية دولية ذات صلاحيات سيادية
إن منح المجلس شخصية قانونية دولية يجعله كيانًا صاحب أهلية تمثيل وتوقيع وتنفيذ وتفويض وتمويل، وهي صلاحيات تستند عادة إلى: الدولة ذات السيادة، أو الأمم المتحدة بوصفها حاضنة شرعية دولية، أو سلطة حكم أصلية معترف بها دوليًّا.
وبذلك يتجاوز المجلس مهام البعثات الأممية التقليدية، ويتحول إلى سلطة انتقالية بديلة، الأمر الذي يفضي إلى إزاحة الفاعل الفلسطيني الرسمي (السلطة الفلسطينية) مؤقتًا دون تحديد سقف زمني دقيق أو ضمان العودة الكاملة لصلاحياته.
2- ارتباط وظيفي مشروط بإصلاحات داخلية فلسطينية
يربط القرار استعادة السلطة الفلسطينية لصلاحياتها بانتهاء عملية الإصلاح الداخلية، وهي صياغة غير قابلة للقياس وغير مرتبطة بمعايير موضوعية، ما يجعل شرط استعادة السلطة للصلاحيات مفتوحًا ومرهونًا بالتقييم الأمريكي والدولي، لا بالقرار الداخلي الفلسطيني. وهذا يفتح الباب نظريًّا أمام: إعادة تشكيل بنية السلطة ومؤسساتها، إعادة تعريف أدوارها ووظائفها، وربما إعادة هندسة قيادتها أو مرجعيتها التمثيلية.
3- سلطة فوق وطنية تشرف على "لجنة تكنوقراط غير مسيّسة"
يُشرف المجلس على "لجنة فلسطينية تكنوقراطية غير مسيّسة" تتولى إدارة الشؤون اليومية، وهو ما يؤدي إلى:
-إخراج عنصر القرار السياسي من داخل غزة.
-إعادة إنتاج نموذج إدارة خدمات محلية بلا سيادة.
-فصل غزة إداريًّا عن النظام السياسي الوطني ولو تحت شعار "الإدارة المهنية".
وفي المقابل، يختلف هذا تمامًا عن صيغة الإجماع الوطني الصادرة عن اجتماع الفصائل الفلسطينية في 25 أكتوبر/تشرين الأول، التي نصّت على لجنة فلسطينية وطنية مستقلة تخضع للشرعية الوطنية وتُشكل جزءًا من التركيبة الحكومية الفلسطينية لا لجهة وصاية دولية.
4- سلطة تمويل وتفويض وإنشاء كيانات دولية موازية
يمتلك المجلس وفق النص حق إنشاء كيانات تشغيلية ذات شخصية قانونية دولية لغايات: الحكم المدني، والإغاثة، وإعادة الإعمار، وتنظيم الحركة والمعابر، واتخاذ تدابير إضافية غير محددة.
وهذا يشكل نموذجًا قريبًا من تجارب كوسوفو 1999، وتيمور الشرقية 1999، والبوسنة 1995، إذ جرى تفكيك السلطات المحلية لصالح إدارة دولية واسعة الصلاحيات، انتهت لاحقًا بإعادة تشكيل البنية السياسية من الأساس.
5-التحول من مسؤولية الاحتلال إلى "وصاية دولية تفويضية"
تشير صيغة القرار إلى نقل عبء المسؤولية القانونية عن الاحتلال إلى جهة دولية مفوَّضة، ما يعني عمليًّا:
- تفريغ قواعد القانون الدولي الإنساني المتعلقة بالاحتلال ومساءلته.
- إعادة تعريف المسؤولية القانونية تجاه السكان المحميين.
- إنتاج نموذج "احتلال مُدار" بدلًا من "احتلال مباشر خاضع للمساءلة".
وبذلك تتحول العلاقة من احتلال + شعب محتل إلى إدارة دولية + سكان يحتاجون للخدمات والاستقرار، وهو تغيير خطير قانونيًّا وسياسيًّا وسياقيًّا.
إن "مجلس السلام" يمثل في بنيته وصلاحياته صيغة وصاية دولية هجينة تستعير صيغًا من نماذج الحوكمة فوق الوطنية في مناطق النزاعات، لكنها في السياق الفلسطيني تتجاوز منطق الحماية الدولية نحو إعادة إنتاج سلطة بديلة تمتلك أدوات التمثيل والقرار والإدارة والتمويل، وتتحكم في جدول استعادة السلطة الفلسطينية لصلاحياتها وفق معايير خارجية غير محددة.
رابعًا/ القوة الدولية كأداة إنفاذ ونزع سلاح لا كقوة حفظ سلام
يعد البند المتعلق بإنشاء قوة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار في غزة(ISF) أحد أخطر المكونات الواردة في مشروع القرار، لا من زاوية الحضور العسكري الدولي في الإقليم فحسب، بل أيضًا من حيث نوع المهمة، وطبيعة الصلاحيات، وخطوط التنسيق، وأهداف الانتشار التي تختلف جذريًّا عن نماذج قوات حفظ السلام الأممية التقليدية التي تتأسس على مبادئ الحياد، والفصل بين الأطراف، وحماية المدنيين، ومنع تجدد الأعمال القتالية.
فعلى العكس من ذلك، ووفق الصياغة الواردة في القرار، تبدو القوة المقترحة قوة إنفاذ عملياتي وأمني تُكلَّف بمهام تنفيذية تدخلية، بما يجعلها أقرب إلى نموذج قوات الاستقرار القسرية Enforcement Missions المقاربة لنماذج أفغانستان، والعراق، كوسوفو، والبوسنة، لا لقوات اليونيفيل أو أوندوف أو قوات الفصل في سيناء.
وتقوم الخطورة الرئيسية للقوة على أربعة مستويات تحليلية:
1- طبيعة المهمة الأمنية: من الفصل إلى التدخل العملي
لا يتضمن نص القرار أية إشارة إلى أن القوة الدولية ستكون طرفًا محايدًا أو قوة فصل بين الاحتلال والسكان المحميين، بل عُرِّفت كقوة:
- تضمن عملية نزع السلاح.
- تدمر وتمنع إعادة بناء البنية العسكرية.
- تتعامل مباشرة مع الجماعات المصنفة مسلحة.
- تحقق السيطرة الأمنية والاستقرار.
- تؤمِّن المعابر والممرات الإنسانية.
ويجعلها هذا التعريف قوةً طرفًا في الاشتباك المحتمل لا قوة احتواء له، الأمر الذي يخلق احتمالية احتكاك مباشر مع المجتمع والسكان، لا مع التشكيلات المسلحة فحسب.
2- ربط الانسحاب الإسرائيلي بفاعلية القوة الدولية ومعايير أمنية فضفاضة
أدخل التعديل الأخير عبارة: "ومع تحقيق القوة الدولية السيطرة والاستقرار"، ما يعني:
- أن الانسحاب الإسرائيلي ليس التزامًا سياسيًّا، بل نتيجة أمنية مشروطة.
- أن معيار الانسحاب تقوده عملية تقييم أمنية يشترك فيها الاحتلال نفسه.
- أن القوة الدولية تتحول إلى طرف مشترك في تحديد استدامة الوجود الإسرائيلي.
وبذلك يصبح الانسحاب قابلاً للتأجيل، أو التمديد، أو التعليق إلى ما لا نهاية، وفق تقديرات أمنية لا معايير قانونية.
3- الارتباط التشغيلي والتنسيقي مع الاحتلال
ينص المشروع بوضوح على أن القوة الدولية ستعمل بالتنسيق الوثيق مع الاحتلال الإسرائيلي، ويعني ذلك عمليًّا أن القوة ستكون جزءًا من المنظومة الأمنية المحكومة بالتصور الإسرائيلي للتهديد لا وفق تعريف القانون الدولي، الذي يَعدُّ الشعب الفلسطيني شعبًا محميًّا تحت الاحتلال وله حق المقاومة المشروع.
كما أن إشراك قوة شرطة فلسطينية مفحوصة يخلق فرزًا أمنيًّا داخليًّا على قاعدة: أن المقبول دوليًّا هو المقبول وفق المعايير الأمنية للاحتلال، وما دون ذلك غير مقبول. وهو ما ينذر بإعادة إنتاج نموذج الأجهزة الأمنية وفق شروط دايتون لكن ضمن نطاق أكثر ضيقًا وحساسية.
4- تحويل القوة الدولية إلى أداة وظيفتها نزع السلاح لا حماية المدنيين
يحدد النصُّ إحدى المهام الجوهرية للقوة بعبارة: "ضمان عملية نزع السلاح وتدمير ومنع إعادة بناء البنية التحتية العسكرية"، وبذلك تُرحَّل وظيفة القوة من الحماية إلى التفكيك العسكري، ما يعني:
- تجريم المقاومة فعليًّا ضمن الصياغة التشغيلية.
- تحويل القوة الدولية إلى طرف نزع هوياتي–قومي لا طرف حماية إنساني.
- فتح الباب أمام اشتباك شعبي محتمل تحت غطاء دولي.
كما أن النص يحوِّل المقاومة ضمنيًّا إلى كيانات "غير شرعية"، ويستبدل مفهوم "مقاومة الاحتلال" بمفهوم "تهديد إرهابي متجدد"، وهو تغير خطابي خطير في المرجعية الحقوقية.
ويقود تحليل بنية القوة الدولية المقترحة إلى الاستنتاج بأن القوة ليست أداة لحفظ السلام، بل أداة لضبط البيئة الأمنية وفق معايير إسرائيلية–أمريكية، عبر نزع السلاح والسيطرة الميدانية، تمهيدًا لإعادة تشكيل بنية الحكم المحلي والفاعلين الأمنيين داخل قطاع غزة.
وبذلك تتحول القوة إلى فاعل مباشر داخل المشهد الأمني لا إلى إطار ناظم له، ما قد ينتج حالة احتكاك وتوتر وصدام مع المجتمع المحلي، ويفتح الباب أمام إدارة صراع جديدة بواجهة دولية.
خامسًا: الإشكاليات السياسية والقانونية في مشروع القرار
لا يمكن التعامل مع مشروع القرار الأمريكي بوصفه مجرد إطار تنظيمي أو ترتيبات انتقالية تقنية في غزة، فهو يحمل في بنيته مجموعة متراكبة من الإشكاليات السياسية والقانونية التي تمس جوهر القضية الفلسطينية، وتعيد تعريف العلاقة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال، وكذلك بين الفلسطينيين والمجتمع الدولي. ويمكن مقاربة هذه الإشكاليات عبر ثلاث زوايا رئيسية مترابطة:
1- الإشكاليات السيادية: تفكيك النظام السياسي الفلسطيني وإعادة تركيبه
على المستوى السيادي–السياسي، يطرح المشروع جملة من المخاطر الجوهرية:
- إزاحة الفاعل الوطني لصالح وصاية مفروضة:
تفويض "مجلس السلام" بوصفه إدارة حكم انتقالية ذات شخصية قانونية دولية، يتولى المسؤولية الإدارية والسياسية في قطاع غزة، يعني عمليًّا استبدال المرجعية الوطنية بمرجعية دولية–أمريكية، وإخراج محور القرار من يد الفلسطينيين إلى مجلس مفوض لا يستمد شرعيته من الشعب بل من قرار دولي.
- تهميش السلطة الفلسطينية وربط صلاحياتها بإصلاحات مشروطة:
ربط استعادة السلطة لصلاحياتها في غزة بـ"استكمال برنامج إصلاحي بشكل مُرضٍ" يحوِّلها إلى فاعل تحت الاختبار، يخضع تقييمه إلى معايير خارجية، ويُبقي العودة الفعلية لصلاحياتها رهينة لقرار أميركي–دولي، لا لقرار وطني أو لآليات توافق فلسطينية داخلية.
- تعطيل الاتفاق الوطني الفلسطيني حول إدارة غزة:
يتناقض النص صراحة مع ما اتفقت عليه الفصائل في بيانها بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول، الذي نص على لجنة فلسطينية مؤقتة من المستقلين "التكنوقراط" تتولى إدارة القطاع بالتعاون مع العرب والمؤسسات الدولية، على قاعدة الشفافية والمساءلة الوطنية.
بديل المشروع هو لجنة تكنوقراط "غير مسيَّسة" تُشرف عليها جهة دولية (مجلس السلام)، ما يعني عمليًّا: إفراغ التكنوقراط من مضمونهم الوطني، وخلق إدارة خدماتية منزوعـة السياسة والهوية، وفصل غزة عن النظام السياسي الفلسطيني لصالح نموذج "إدارة محلية تحت وصاية".
النتيجة السيادية هنا أنه جرى تحويل قطاع غزة إلى مختبر لإعادة تشكيل الكيان السياسي الفلسطيني، انطلاقًا من صيغة إدارة انتقالية مفروضة، لا من توافق وطني جامع.
2- الإشكاليات القانونية: شرعنة أهداف الحرب وتجريم المقاومة
على المستوى القانوني، يمسُّ المشروع بنية المرجعية الدولية نفسها في التعامل مع فلسطين:
- الانتقال من "احتلال مسؤول" إلى "وصاية مفوَّضة":
يحمِّل القانون الدولي الإنساني قوةَ الاحتلال مسؤولية حماية السكان المحميين، وتوفير احتياجاتهم الأساسية، والامتناع عن تغيير البنية الديمغرافية والسياسية للأرض المحتلة.
1. المشروع المقترح ينقل المسؤولية الفعلية عن إدارة القطاع إلى مجلس السلام والقوة الدولية، دون أن ينهي الاحتلال فعليًّا، ما يعني تخفيف عبء المسؤولية القانونية عن "إسرائيل"، وإعادة تعريف دورها كطرف "شريك في الأمن" بدل كونها قوة احتلال.
2. تجريم المقاومة وإعادة توصيفها كتهديد إرهابي: ينص القرار على أن من مهام القوة الدولية "منع إعادة بناء البنية التحتية العسكرية والإرهابية"، وعلى ضمان ألا تكون غزة مصدرًا لـ"تهديد إرهابي متجدِّد"، وهو نص:
3. يخلط عمدًا بين المقاومة المشروعة والعمليات الإرهابية، ويُشرعن توصيف الاحتلال للمقاومة الفلسطينية بأنها "إرهاب"، ويتجاهل أن حق الشعوب في مقاومة الاحتلال مكفول في قرارات أممية متعاقبة.
-انتزاع الغطاء القانوني عن القوة الدولية نفسها:
عبر منح "مجلس السلام" صلاحية إنشاء القوة الدولية وتفويضها، بدل أن تكون القوة صادرة عن تفويض أممي مباشر من الأمم المتحدة، يُنقل مركز الشرعية من منظمة دولية جامعة إلى مجلس مفوَّض سياسيًّا، فيتحول الإطار من قوة لحماية المدنيين وفصل الأطراف إلى أداة تنفيذية لمشروع سياسي–أمني، تعمل خارج إطار المرجعية التقليدية للقانون الدولي الإنساني.
بهذا المعنى، يمثِّل المشروع آلية مقنَّعة لشرعنة أهداف الحرب الإسرائيلية من نزع سلاح غزة، وتفكيك بناها المقاومة، وتطويع بنيتها السياسية، تحت غطاء قرار دولي.
3- الإشكاليات الإنسانية–الإدارية: تحويل الإعمار والمساعدات إلى أدوات ابتزاز
على المستوى الإنساني والإداري، تبدو الترتيبات المقترحة أبعد ما تكون عن الحياد الإنساني:
- ربط الإغاثة والإعمار بالهندسة السياسية والأمنية:
يضع القرار ملفات: إعادة الإعمار، وحركة المعابر، وتدفق المساعدات، تحت مسؤولية الإدارة الانتقالية (مجلس السلام والكيانات التشغيلية)، ما يعني أن هذه الملفات تتحوَّل إلى أوراق ضغط سياسية وأمنية؛ تُكافَأ أو تُعاقَب بها الأطراف، وتُستخدم لتطويع المجتمع وفرض معادلات جديدة للسلطة.
- التحكم بمنظومة الفاعلين الإنسانيين:
صحيح أن النص المعدَّل حذف الفقرة العقابية الصريحة ضد المنظمات الإنسانية، لكن بقيت فلسفة "ضمان الاستخدام السلمي وعدم التحويل" قائمة، وهي صياغة قابلة للاستغلال لإقصاء فاعلين إنسانيين بحجة "سوء الاستخدام"، وتفتح الباب لمزيد من التدخل الأمني في عمل المنظمات العاملة في غزة.
- إعادة بناء شبكة خدمات بلا سيادة:
من خلال الكيانات التشغيلية التي يُنشئها مجلس السلام، تتحوَّل الصحة، والتعليم، والبنية التحتية، إلى ملفَّات تُدار من خارج المنظومة الوطنية، وتخضع لمعايير التمويل والرضا السياسي الدولي، ما يُحوِّل الحقوق الأساسية للسكان إلى خدمات مشروطة لا استحقاقات قانونية وإنسانية.
تتقاطع الإشكاليات السيادية والقانونية والإنسانية في المشروع عند نقطة واحدة هي إعادة تعريف غزة من "أرض محتلة لشعب له حق تقرير المصير والمقاومة" إلى "إقليم مضطرب يحتاج إلى وصاية دولية وحوكمة انتقالية ونزع سلاح".
وبذلك يصبح مشروع القرار امتدادًا ناعمًا لأهداف الحرب الإسرائيلية، يلبس ثوب تسوية انتقالية، لكنه في الجوهر يشرعن نزع عناصر القوة الفلسطينية، ويفكِّك بنية التمثيل السياسي الوطني، ويحوِّل الحقوق الإنسانية إلى امتيازات مشروطة بإرادة مجلس السلام والقوة الدولية والضامنين.
سادسًا: الخلاصة والاستشراف
يكشف مشروع القرار الأمريكي، بعد الاطلاع التفصيلي على نصه والتعديلات المصاحبة له، أنه يمثل نقلة نوعية في مقاربة المجتمع الدولي لقطاع غزة بعد الحرب، تقوم على الانتقال من مرحلة الاحتلال العسكري المباشر إلى مرحلة إدارة انتقالية دولية مفوّضة، دون أن تُحسم الأسئلة السياسية والحقوقية المرتبطة بجوهر الصراع وحق الشعب الفلسطيني في السيادة وتقرير المصير. ويُكرِّس المشروع، بصيغته المعدَّلة، فكرة تفكيك البنية الوطنية الفلسطينية عبر استبدال المرجعيات السياسية والقانونية الداخلية بجهة إدارة دولية تتمتع بصلاحيات شاملة وأدوات تنفيذية واسعة، بما يفضي إلى تعليق القرار السياسي الفلسطيني خارج الحدود وربطه بمنظومة شروط أمنية وسياسية خارجة عن الإرادة الوطنية.
وعلى الرغم من أن المشروع يتضمن عبارات تتعلق بالتوصل إلى مسار يقود نحو دولة فلسطينية مستقبلية، فإن هذا الطرح يأتي في سياق تعليق سياسي مفتوح لا تحدِّده معايير قياس موضوعية ولا أطر زمنية ملزمة، ويرتبط بمنظومة إصلاحات شرطية تُقدِّرها جهات خارجية، وتُعرَّف وفق منظور يختلط فيه الأمني بالسياسي وبالمعيار الأمريكي–الإسرائيلي للتكيف مع الواقع، لا وفق معيار القانون الدولي الذي يَعُدُّ الشعب الفلسطيني صاحب حق أصيل غير مشروط في تقرير مصيره.
كما يَبرز المشروع بوصفه آلية لإعادة إنتاج أهداف الحرب الإسرائيلية بغطاء دولي، خاصة فيما يتعلق بملف نزع السلاح وتحويله من هدف عسكري إلى هدف أممي معلن ضمن عملية "استقرار أمني" تستبق أية تسوية سياسية أو اعتراف بحقوق وطنية، بما يجعل "الاستقرار" نتيجة أمنية نزعوية لا نتاجًا سياسيًّا تفاوضيًّا.
ومن شأن هذا التغيير تحويلُ القوة الدولية من إطار حماية إلى أداة ضبط اجتماعي–أمني، بما يُدخل غزة في دورة جديدة من الإدارة الأمنية متعددة الأطراف، قد تمتد زمنيًّا وتُنتج طبقة حكم وظيفية منفصلة عن السياق الوطني.
عليه، يمكن القول إن المشروع لا يُمثِّل خطة خروج من الحرب بالمعنى السياسي، بمقدار تمثيله مرحلةً انتقاليةً طويلةَ الأمد لإعادة هندسة قطاع غزة سياسيًّا وأمنيًّا وإداريًّا، عبر تحويله إلى مساحة تحت الوصاية الدولية المشروطة، مع فتح الباب أمام إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني برمَّته من بوابة "الإصلاح الإلزامي" و"الحكم الانتقالي"، وصولًا إلى تقليص دور الفاعل الوطني وتوسيع دور الفاعل الدولي بوصفه المرجع التأسيسي لأي مخرج مستقبلي.