في كلّ عدوانٍ إسرائيليّ على قطاع غزّة، تعود مسألة حقول الغاز الطبيعيّ في شرق المتوسّط، وعلى رأسها حقل "غزّة مارين" إلى التداول مُجدّدا، حيث تنتشر تقاريرٌ صحافيّة تُحاول ربط الدوافع العدوانيّة الإسرائيليّة بمسألة الاستحواذ على الثروات الطبيعيّة قُبالة سواحل غزّة. هذه "الموضة" ليست جديدة، وقد نشأت في العقد الأخير الكثير من النظريّات التي تحاول تفسير الصراعات الإقليميّة أو الثورات (كما هو الحال مع الانتفاضة السوريّة بالذات) من هذا الباب حصرا، وهذه النظريّات هي في غالبيّتها إما غير صحيحة أو تنطوي على مبالغاتٍ صارخة. هُنا بعض الملاحظات التي تُعين على الإحاطة بشكلٍ أفضل بهذا الموضوع:
▪️ اُكتشف حقل "غزّة مارين" للغاز الطبيعيّ في العام 1999 على بعد 36 كيلو مترا وعلى عمق حوالى 603 متر تحت سطح البحر قُبالة سواحل مدينة غزّة، وذلك على يد شركة "بريتيش غاز" البريطانيّة. يُعدّ الحقل من بين أوائل حقول الغاز الطبيعيّ المُكتشفة في منطقة شرق المتوسّط، لكنّه يكاد يكون الحقل الوحيد في المنطقة الذي لم يحظ بفرصة استخراج الغاز الذي يحتويه والاستفادة منه فلسطينيّا بسبب الفيتو الإسرائيليّ على عمليّة تطويره منذ اكتشافه.
▪️ في شهر يونيو/حزيران الماضي، أعلنت إسرائيل موافقتها المبدئيّة على تطوير "غزّة مارين". وقبل مغادرته لمنصبه في تل أبيب، كشف السفير الأمريكيّ توماس نايدس أن القرار جاء بعد ضغوطٍ أمريكيّة كبيرة على إسرائيل لتقديم تسهيلاتٍ معيشيّة للفلسطينيين. بموازاة الضغط الأمريكيّ، جرى تفاهمٌ في نفس الفترة بين رام الله والقاهرة لتطوير الحقل من خلال شركة "إيجاس" المصريّة الحكوميّة، على أن يكون هذا التفاهم ضمن حزمة سياسية واقتصاديّة كاملة لتحقيق مصالحة وطنيّة فلسطينيّة شاملة، وعلى أن يتضمن التفاهم أيضا حصول على القاهرة على كميات من الغاز المنتج من الحقل للتصدير كغازٍ مُسال من محطّات إدكو ودمياط.
▪️ في ديسمبر/كانون ثاني 2022، أعلنت وزارة الطاقة الإسرائيليّة عن فتح باب المناقصة في مجموعة من البلوكات البحريّة للتنقيب الاستكشافي عن الغاز الطبيعيّ في شرق المتوسّط. وفي أكتوبر/تشرين أوّل الماضي، أي في خضم الحرب، منحت الوزارة 6 شركات أجنبيّة وإسرائيليّة رخصا استشكافيّة في مناطق تُعدّ مناطق بحرية فلسطينيّة بحسب أحكام قانون البحار لعام 1982. يُعدّ منح هذه الرخص مخالفة صريحة للقانون الدولي، ومن هذا المنطلق فمن المستبعد في نظري أن تُقدم الشركات التي حصلت على الرخص بأعمال تنقيب حالية أو مستقبلية في المناطق البحرية الفلسطينيّة، خاصة أن صناعة النفط والغاز لا تتحمّل المخاطر ذات الطابع السياسي، فما بالك بمناطق لا تزال تحت الاحتلال العسكريّ كقطاع غزّة؟
▪️ تبلغ احتياطيّات حقل "غزّة مارين" حوالى 1 تريليون قدمٍ مكعّب. بالنسبة للقاريء العادي أو حتى الصحافي غير المتخصّص، قد يُغري رقم تريليون هذا بذهاب المرء في الخيال بعيدا، لكن في عالم حقول الغاز، يعدّ هذا رقما متواضعا للغاية. وحتى نُقدّم إثباتا ماديّا على هذه المسألة فيكفي أن نقارن احتياطيّات "غزّة مارين" باحتياطيات أهم حقول الغاز في شرق المتوسط، وهي: حقل "ظُهر" المصري 30 تريليون قدم مُكعب، حقل "ليفياثان" الإسرائيلي 22 تريليون قدم مُكعب، حقل "تامار" الإسرائيلي 10 تريليون قدم مُكعّب، وحقل "أفروديت" القبرصي 4 تريليون قدم مُكعب.
▪️ الاحتياطيّات التي يحتويها حقل "غزّة مارين" قد تكون كبيرة بالنسبة لحجم الاقتصاد الفلسطينيّ، وسوف تساعد بلا شك، لو جرى استخراجها مستقبلا، في رفد الأراضي الفلسطينية بموردٍ مهمّ للطاقة لعقدٍ من الزمن على الأقل. لكن الذهاب بعيدا والحديث عن إمكانيّة لعب هذه الاحتياطيّات دورا على المستوى الإقليمي أو الدولي هو مبالغة كبيرة لا تسندها الأرقام أبدا. ويكفي أن نعرف أن غاز شرق المتوسّط كله لم يستطع حتى اللحظة أن يلعب دورا كبيرا في نظام إمدادات الطاقة العالميّة، حيث أن الإمدادات تتحرّك في النطاق الإقليمي فقط (من إسرائيل إلى مصر والأردن)، وقد صدّرت مصر خلال العام الماضي بعض شحنات الغاز المُسال إلى أوروبا لكنها توقفت عن ذلك بسبب ارتفاع الطلب المحلّي على الغاز وتناقص معدّلات الإنتاج من حقولها في البحر المتوسّط.
▪️ لا علاقة لحرب غزّة من قريبٍ أو بعيدٍ بموضوع الغاز الطبيعيّ، والغاز ليس هو دافعها بأي حالٍ من الأحوال. قناعتي الشخصيّة أن إسرائيل لن تسمح في المستقبل المنظور بتطوير حقل "غزّة مارين"، لأن مشروعها الرئيسي هو منع تحقّق أي كيانيّة سياسية سياديّة للفلسطينيين وتحديدا في قطاع غزّة الذي تعرف أنه مركز الوطنيّة الفلسطينيّة وقلبها النابض تاريخيّا، والأمر أيضا ينطبق على أي مشروعات أخرى كبيرة مرتبطة بالتجارة والاقتصاد كالموانيء، لأن نشوء أي مشروعات من هذا النوع يُشكّل خصما من رصيد الهيمنة الاستراتيجيّة لها.