مقدمة:
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تشن قوات الاحتلال حرب ضروس ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إذ ارتكب الاحتلال عدد كبير من مجازر، وقام بتدمير أكثر من 70% من المباني والمنشآت والبنية التحتية في القطاع، وذلك في ظل انعدام الخدمات الصحية في المستشفيات، والمراكز الصحية، وأيضًا في ظل انعدام الخدمات الغذائية، ووجود نقص في هذه المواد، واعتماد جزء كبير من سكان القطاع على المساعدات الخارجية. غير أن الأضرار الأطول أجلًا الناجمة عن هذا العدوان، والتي ستخّلف آثارًا اقتصادية وديموغرافية واجتماعية ونفسية كبيرة جدًا، وإن هذه الآثار خطيرة على بنية المجتمع الفلسطيني، وتشير التوقعات إلى أنها ستدوم لفترات زمنية طويلة بعد نهاية العدوان، وعليه ستركز هذه المادة على التغيرات التي يحاول جيش الاحتلال إحداثها على بنية الهرم السكاني في قطاع غزة، مستندة إلى بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، من أرقام ونسب مئوية ورسوم بيانية.
الهرم السكاني الفلسطيني:
الاحتلال يسعى بالقوة لضرب "الهرم السكاني" للمجتمع الفلسطيني، ويعمل عبر الضغط العسكري على تفكيك البنية الوظيفية لهذا الهرم من أجل التأثير على الواقع الديمغرافي في غزة في السياق الاستراتيجي، وعندما نتحدث عن "الهرم السكاني الفلسطيني" علينا أن نتذكر أن هذا الهرم يأخذ الشكل التوسعي في أنواع الاهرامات السكانية بحسب جهاز الإحصاء الفلسطيني، والهرم التوسعي يختلف عن الاهرامات الثابتة والضيقة، حيث شكل الهرم هو عبارة عن قاعدة عريضة، وقمة ضيقة، ولذلك نسبة السكان تكون للأعمار الأصغر في السن، وفي هذا السياق يؤكد جهاز الإحصاء الفلسطيني في بيانه الصادر بمناسبة اليوم العالمي للسكان: التركيب العمري للسكان في قطاع غزة يشير الى انه مجتمع فتي بامتياز، اذ تبلغ فيه نسبة الافراد دون سن 18 سنة نحو 47% من السكان ونسبة الافراد دون سن 30 عاما نحو 68% في حين تشكل نسبة كبار السن 65 سنة فأكثر نحو 3% فقط، وعليه فقد بلغ العمر الوسيط لسكان القطاع (العمر الذي يقسم اعمار السكان الى نصفين متساوين) نحو 19.5 سنة أي ان نصف السكان دون هذا العمر والنصف الاخر فوقه(1).
الواقع الديمغرافي في غزة عشية السابع من أكتوبر:
قبل عدوان السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 تؤكد المعطيات أن الواقع الديمغرافي لسكان قطاع غزة عشية عدوان الاحتلال كان مستقرًا، ويسير في اتجاه النمو الطبيعي تقريبًا، وعليه تُشير معطيات جهاز الإحصاء الفلسطيني، إلى أن: عشية عدوان الاحتلال الاسرائيلي على قطاع غزة يوم السابع من اكتوبر من العام 2023 كان يقيم في قطاع غزة نحو 2.2 مليون فلسطيني على مساحة قدرها 365 كم2 يمثلون نحو 41% من سكان قطاع غزة والضفة الغربية، معظمهم لاجئون (66% منهم لاجئون) هجروا من قراهم ومدنهم أثر حرب عام 1948، ويتوزع سكان القطاع على 5 محافظات فلسطينية تشكل قطاع غزة، ووفق تقديرات منتصف عام 2023 يقيم نحو 1.2 فلسطيني في محافظتي شمال غزة (جباليا) وغزة، (ما يعرف شمال ووسط جنوب القطاع) في حين يقيم المليون المتبقي في محافظات خانيونس ودير البلح ورفح(2).
عدد السكان الفلسطينيين المقدر في العالم حسب مكان الإقامة، منتصف عام 2024، جهاز الإحصاء الفلسطيني(3).
تأثير الحرب على التركيب العمري والنوعي لسكان القطاع:
مجتمع فتي، انخفاض نسبة النمو السكاني
وفق ما سبق من معطيات وبيانات، يُمكن القول إن النسب والارقام بخصوص أعداد الشهداء تتدحرج كما كرة الثلج ما بقيت الحرب مستمرة، ولكن بحسب البيانات المحدثة على الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني حتى كتابة هذه السطور، قد بلغ إجمالي أعداد الشهداء 43163 ألف، منهم 17210 ألف من الأطفال، و11742 ألف من النساء، وقد بلغ أيضاً أعداد المفقودين 10000 ألف، منهم 4700 ألف من الأطفال والنساء. أما اللافت في بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني: أن نسبة النمو المقدرة في القطاع لعام 2023 ستنخفض من نحو 2.7% وفق تقديرات الجهاز لعام 2023 الى نحو 1% فقط خلال عام 2024 وتحديدًا بعد منتصف العام، اذ ستنخفض معدلات المواليد والانجاب بصورة كبيرة جدا نتيجة لتوجه الازواج لعدم الانجاب نظرا للأوضاع السائدة وخوفًا على صحة الامهات والاطفال وانخفاض عدد حالات الزواج الجديدة خلال عدوان الاحتلال الاسرائيلي الى مستويات متدنية للغاية(4).
إذن، يسعى الاحتلال لتشوية الهرم السكاني الفلسطيني، عبر استهداف ممنهج وبنيوي لهذا الهرم، وتحديدًا أن الاحتلال يتعمد بشكلٍ واضح استهداف فئة الشباب في قطاع غزة، ويُمكن على سبيل المثال هنا أن نأخذ بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني الواردة في بيانه الصادر بمناسبة اليوم العالمي للشاب في سياق التوضيح، حيثُ تؤكد البيانات: أن 24% من اجمالي هم من فئة الشباب حتى تاريخ هذا البيان، نحو 26% من الذكور، و22% من الإناث (5).
لكن الخطير في هذه البيانات هو ما خلُص له تقرير الإحصاء الفلسطيني: من المتوقع أن يتأثر التركيب العمري والنوعي للسكان مباشرة نتيجة استهداف الجيش الإسرائيلي المتعمد لفئات محددة من السكان كالأطفال والشباب، ما يؤدي إلى تشوه في شكل الهرم السكاني، وخصوصًا في قاعدته، مع العلم أن هناك تأثيرًا متوسط وبعيد المدى يتوقع أن يطال التركيب العمري للسكان يتمثل بانخفاض عدد المواليد للسنوات القادمة، والذين يمثلون القاعدة الأساسية للهرم السكاني نتيجة لاستهداف فئة الشباب، والتي تنجب أو يتوقع أن تساهم في إنجاب الأطفال خلال السنوات القادمة"(6).
متوسط حجم الأسرة في فلسطين حسب المنطقة، 2022،2007، جهاز الإحصاء الفلسطيني(7).
الحركة الصهيونية، بنية وليس حدثًا:
في أدبيات الاستعمار، يُعتبر الاستعمار الاستيطاني بنية وليس حدثًا (8)، أي أنه شيء مستمر بدافع الايدلوجية، ولم تخرج "الصهيونية" من عباءة هذا الوصف، حيثُ تُعتبر "الصهيونية" بأنها حركة استعمارية استيطانية تسعى لتهجير السكان الأصليين بالكامل، سواء بالطرق الناعمة، أو بالطرق الخشنة "القوة العسكرية"، وعلى سبيل المثال لا الحصر: لطالما شكّل الوجود الفلسطيني عموماً، وذلك الراسخ في الأراضي المحتلة سنة 1948 بالأخص، هاجساً مؤرقاً لكيان الاحتلال، اولاً لأنّ هذا الوجود يرفض ويقاوم كلّ محاولات التهجير، وثانياً لأنه وجوده حيٌ وفاعلٌ ويتنامى باستمرار داخل جسد الكيان، وبما يهدد وجوده وبقاءه، بالبُعدين الاستراتيجي والديمغرافي، ولذلك قام الاحتلال بتشجيع جرائم القتل بين أفراد المجتمع وشرائحه (الأراضي المحتلة عام 1948)، وذلك عبر حماية العصابات التي تنشط داخله، ومن تلك المرتبطة بالعصابات الإسرائيلية المنظمة، إضافة إلى اسهام الاحتلال بانتشار السلاح بين الناس، وعدم ملاحقة المرتكبين بجديّة، وحتى غضّ الطرف عن الجرائم المتصاعدة بين المواطنين في أراضي 48(9)، وأما عن الطرق الخشنة، كل ما يجري في قطاع غزة من حرب إبادة، واستهداف متعمد للمدنيين، وتدمير القطاع الصحي، والتعليمي، والاقتصادي، والثقافي، وخلق أزمة مياه، وأيضًا خلق بيئة طاردة من خلال التجويع، والتشريد...، يأتي في سياق الطرق الخشنة.
نسبة الفلسطينيين واليهود في فلسطين التاريخية، سنوات مختارة، الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني(10).
ولذلك يعمل الاحتلال، وتحديدًا اليمين المتطرف على تطبيق مقولة "ثيودور هيرتزل" في كتابة الدولة اليهودية "القوة تسبق الحق"، أو ما سماها "زئيف جابوتنسكي" في مقاله الجدار الحديدي" بـــــ "الضغط العسكري" مع الفلسطينيين، حيثُ يؤمن الاحتلال أن ما لا يُعالج بالقوة يُعالج بمزيد من القوة لتطبيق مشاريعه الاستيطانية في فلسطين، وعليه في ظل فشل الاحتلال في تهجير الفلسطينيين عبر القوة التي تحدثنا عنها، فأنه في الطرف الآخر يستهدف بإحداث تغييرات مهمة في قاعدة الهرم السكاني الفلسطيني، والواقع الديمغرافي في قطاع غزة، حيثُ المجازر، وحجم الإبادة في غزة، ومحو عائلات كاملة من السجل المدني الفلسطيني، تُنظر جميعها بإحداث تغييرات جوهرية في حجم عدد السكان، ومعدلات النمو المستقبلية.
توقعات التوازن الديمغرافي بين الفلسطينيين واليهود وغيرهما في فلسطين التاريخية، الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، (11).
الوظيفة الظاهرة والوظيفة الباطنة للحرب:
علينا التمييز بين وظيفتين للحرب الدائرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023: الوظيفة الظاهرة، أو الواضحة(12)بحسب التعبير الذي وضعه عالم الاجتماع الأمريكي "روبرت ميرتون"، والتي تتمثل في عمل عسكري ينطوي تحته العديد من الأهداف، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تفكيك قدرات المقاومة بحسب تصريحات جيش الاحتلال، أو عودة سكان مستوطنات غلاف غزة، أو بشكلٍ أوسع تكمن الصورة الواضحة في "إرادة الانتقام" بحسب تعبير "أبن خلدون ". أما الوظيفة الكامنة أو المستترة(13) تتمثل في تغيير الواقع السكاني لقطاع غزة، وضرب البنية الوظيفية للهرم السكاني الفلسطيني، والتأثير على النمو الطبيعي للسكان.
خلاصة:
أخيراً وليس أخراً، يسعى الاحتلال بطبيعة الحال إلى جعل قطاع غزة مكان غير صالح للعيش من خلال حرب الإبادة، وذلك عبر تدمير كل مفاصل الحياة في القطاع ضمن سياسة الخطوة خطوة عبر استخدام مبدأ الضغط العسكري، وأحد أهم الأهداف التي يصبو الاحتلال إلى تطبيقها هي تغيير الواقع الديمغرافي في القطاع، والذي عمل عليه منذ عام 1967، عبر مجموعة من السياسيات تقصد منها تقليص المكون الديمغرافي الفلسطيني في قطاع غزة، وكان أهم تلك السياسات هي رفع نسبة البطالة في غزة، وخفض مستوى المعيشة، لتشجيع السكان على الرحيل بمفردهم.
إذن، يكمن الهدف من وراء ضرب بنية الهرم السكاني الفلسطيني، هو تدمير الواقع الديمغرافي الفلسطيني على الصعيد الاستراتيجي، ولكن صمود السكان في غزة، وتحديداً رفض النزوح القسري الذي يحاول الاحتلال فرضه عبر حرب الإبادة، سيفُشل هذا الهدف الاستراتيجي، ولكن من المتوقع أن تؤثر حرب الإبادة على التركيبة البنيوية للسكان في قطاع غزة بشكلٍ نسبي ومرحلي، وخصوصًا أمام مشهد الجوع والفقر، وتدمير البنية التحتية، والمساكن، وارتفاع نسبة البطالة، وأيضًا ارتفاع مؤشرات انتشار الامراض، والأوبئة، وبطبيعة الحال ستؤثر هذه المعطيات على الواقع السكاني في قطاع غزة، وهذا التأثير قام بإحداث خللًا قويًا للواقع الديمغرافي الفلسطيني يحتاج سنوات طويلة لعلاجه، وخصوصًا ترميم مفهوم "النمو الطبيعي" للسكان بحسب النظريات علم الاجتماع السكاني.
ينبغي الإشارة هنا، إلى أن استهداف هذه الاعداد من الشبان، والعائلات لا يعني تغييراً جوهرياً طالما بقي سكان القطاع غزة، ولكن استمرار الحرب، وممارسة الاحتلال الاستهداف الممنهج والبنيوي للسكان يُنذر بشكلٍ خطير حدوث تغييرات نوعية في الهرم السكاني الفلسطيني على الصعيد الاستراتيجي، بسبب تراكمية الحرب، سواء على صعيد أعداد الشهداء، او على صعيد التدمير الممنهج للبنى التحتية، ومقومات الحياة.
إن حرب الإبادة التي تحدث من جهة، والتدمير الممنهج من جهة أخرى، تُفضي بحالة واضحة لضرب البنية السكانية، والأهم إن استمرار الحرب بصيغتها الحالية ستؤثر على المكون الديمغرافي لقطاع غزة، حيثُ الأثار المتوقعة على البنية الصحية والتعليمية والاقتصادية على أثر التدمير الواسع للمنشآت، جميعها تفاقم الظروف الاجتماعية والاقتصادية الموجودة بالفعل بسبب الحرب، وتحديداً عدم القدرة على التعافي بشكلٍ سريع ما بعد حرب الإبادة، خصوصاً أن المؤشرات الاقتصادية والتنموية الحالية تُنذر بوجود خطر على البنية السكانية في قطاع غزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، (2024). الإحصاء الفلسطيني يستعرض أوضاع السكان في فلسطين بمناسبة اليوم العالمي للسكان، https://linksshortcut.com/OfRUC
(2). الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024، مرجع سابق.
(3). الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024، مرجع سابق.
(4). الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024، مرجع سابق.
(5). الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024. الإحصاء الفلسطيني يستعرض أوضاع الشباب في المجتمع الفلسطيني بمناسبة اليوم العالمي للشباب، https://linksshortcut.com/QIoEa.
(6). الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024، مرجع سابق.
(7). الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024، مرجع سابق.
(8). حباس، وليد، مفهوم الاستعمار الاستيطاني- نحو إطار علمي جديد، مركز مدار، فلسطين
(9). مصعب، حسن، (2022). الجريمة في الوسط الفلسطيني "في الأراضي المحتلة عام 1948"-قراءة في الأبعاد الاجتماعية والسياسية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت.
(10). الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2022. أوضاع الشعب الفلسطيني من خلال الأرقام والحقائق الإحصائية عشية الذكرى 76 لنكبة فلسطين، https://linksshortcut.com/mIkrx
(11). الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2022، مرجع سابق.
(12). عبد الجواد، مصطفى، (2011). نظرية علم الاجتماع المعاصر، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، ط2، ص 268.
(13). عبد الجواد، 2011، مصدر سابق، ص268.