استمرت المقتلة التي يشنّها الاحتلال في قطاع غزة من دون رادع، وعلى أمل تحقيق حلم نتنياهو بالنصر المطلق. ولكن، عدا عن القتل والتدمير والتجويع، فشل نتنياهو في فرض إرادته أو تحقيق أهداف الحرب. وازداد الانقسام الداخلي بشدة، في ظل تعاظم الاعتراضات الدولية، وصولًا إلى قناعة كثيرين بأن نتنياهو وحكومته منقطعون عن الواقع ويقودون كيان الاحتلال نحو كارثة كبرى.
وفي هذه الأجواء المتواصلة منذ انتهاك وقف إطلاق النار، ووصولًا إلى إعلان بدء عملية "عربات جدعون"، تُمارس واحدة من أكثر الألاعيب الإعلامية دناءة في العالم. وإذا أخذنا بالحسبان مدى حرص نتنياهو على السيطرة على الإعلام داخليًا وخارجيًا، يمكن فهم بعض جوانب النفخ والتنفيس التي يمارسها على صعيد الحرب. وقد فضح تحقيق ألماني دور نتنياهو في تضليل صحيفة بيلد، وتمرير وثائق مزوّرة أو معدّلة لها، لخدمة مصلحته في منع التوصّل إلى صفقة تبادل.
واليوم، وبعد أن أعلن ديوان نتنياهو - بعد انسداد أفق التسوية وتحت ضغوط أميركية - أن المفاوضات تجري أيضًا حول وقف الحرب، كان لا بد من تبرير هذا التراجع بادعاء أن المقاومة هي من تراجعت. ولم يكتف بذلك، بل جرى تمرير كلام لشبكة سي إن إن حول موافقة المقاومة على مخطط ويتكوف.
وفي السياق الإسرائيلي، تم ربط هذه التطورات بشدة القصف والقتل تحت شعار "مفاوضات تحت النار". وسرعان ما أعلنت المقاومة عدم صحة ما نُشر، وأكدت أنها لا تزال عند موقفها باشتراط أي اتفاق بوقف الحرب أو السير على طريق وقفها.
وهذا يُظهر أن كلام الصحافة العبرية عن قرب التوصل إلى اتفاق يخدم مصالح نتنياهو الداخلية، خصوصًا أنه يترافق مع هذه التقارير المتفائلة اندفاعة لتوسيع الحرب في قطاع غزة. ومن المعروف أن عائلات الأسرى والمعارضين لاستمرار الحرب يؤكدون أن توسيع الحرب هو بمثابة حكم إعدام على الأسرى يصدره نتنياهو.
ومن جهة أخرى، اجتمعت حكومة نتنياهو لمناقشة إدخال المساعدات الإنسانية لمنع المجاعة في غزة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن نتنياهو وحكومته، وهم من اتخذوا قرارًا واعيًا بمحاصرة غزة ومنع إدخال الغذاء والدواء والوقود، لن يسمحوا بإزالة هذا الحصار بسهولة.
لكن الضغط الأميركي، المصحوب بتنديد أوروبي وعالمي، دفع حتى سموتريتش مؤخرًا للقول إن "العالم لن يسمح لنا بتجويع مليوني نسمة في غزة". وبقي بن غفير وحيدًا في موقفه الرافض لإدخال المساعدات. لكن يجري توصيف قرار إدخال المساعدات بأنه قرار "إسرائيلي" صرف، وأن الولايات المتحدة اتفقت مع شركة أميركية لتوزيع المساعدات. وبالمناسبة، تم تحديد يوم 24 مايو موعدًا لبدء عمل هذه الشركة، كما وصلت طواقم منها يوم أمس إلى مطار اللد.
وكانت القناة 12 العبرية قد أعلنت أن الإدارة الأميركية أبلغت الاحتلال أنه مع ساعات الصباح يجب أن يتم إدخال المساعدات الإنسانية بدون قيود. لكن مكتب نتنياهو أصدر بيانًا قال فيه إنه قرر إدخال المساعدات إلى غزة "بناءً على اقتراح من جانب جيش الاحتلال".
وفي موقع والا كتب باراك رافيد، وهو من أكثر المراسلين الإسرائيليين موضوعية، أن مصادر مطلعة قالت إن المفاوضات تجري مباشرة مع نتنياهو ومع قيادة المقاومة عبر رجل الأعمال الفلسطيني الأميركي بشارة بحبح. "محادثات الوفد في الدوحة هي جزء من جدول الأعمال"، وأضاف أن نتنياهو رد بشكل إيجابي على العرض، لكن المقاومة، مع كثير من التحفّظات، لا تزال تطالب بضمانات لإنهاء الحرب.
وقدّم مبعوث البيت الأبيض ستيف ويتكوف اقتراحًا محدّثًا إلى الاحتلال والمقاومة قبل أيام قليلة، من أجل التوصل إلى اتفاق يشمل إطلاق سراح الأسرى ووقف إطلاق النار في غزة، ويضغط على الجانبين لقبوله، وفقًا لمسؤول في الاحتلال ومصدر مطلع على التفاصيل.
تحاول إدارة ترامب منع عملية عسكرية واسعة النطاق لجيش الاحتلال في غزة، والسعي إلى إطلاق سراح مزيد من الأسرى، والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية لمنع المجاعة والانهيار الكارثي.
وأعلن جيش الاحتلال، الأحد، أن قواته البرية بدأت العمل في عدة مناطق شمال وجنوب قطاع غزة، ضمن المرحلة الأولى من عملية "عربات جدعون". ويقول مسؤولون كبار في جيش الاحتلال إن خمس فرق من المشاة والمدرعات تشارك في العملية، التي تتضمن إعادة احتلال قطاع غزة بأكمله، وهدم معظم المباني في هذه المناطق.
خلف الكواليس:
ورغم أن الاحتلال والمقاومة لديهما فريقان تفاوضيان في الدوحة، فإن المحادثات الحقيقية بشأن اقتراح ويتكوف تجري حاليًا عبر قنوات أخرى، بحسب المصادر. ويجري مبعوث البيت الأبيض محادثات مباشرة مع نتنياهو ومع شريكه المقرب، الوزير رون ديرمر، ومع قيادة المقاومة في الدوحة - من خلال قناة المحادثات غير المباشرة التي يديرها رجل الأعمال الفلسطيني الأميركي بشارة بحبح.
وقد لعبت هذه القناة دورًا حاسمًا في إطلاق سراح الأسير الإسرائيلي الأميركي عيدان ألكسندر الأسبوع الماضي.
وبحسب مسؤول كبير في الاحتلال ومصدر آخر مطلع على التفاصيل، فإن الاقتراح المحدث يشبه جزئيًا المقترحات السابقة، ويتحدث عن إطلاق سراح 10 أسرى ونحو 15 جثة لأسرى استُشهدوا، مقابل وقف إطلاق النار لمدة تتراوح بين 45 و60 يومًا، والإفراج عن أسرى فلسطينيين.
لكن الاقتراح يختلف عن المقترحات السابقة بإضافة عدة صيغ جديدة تُظهر أن وقف إطلاق النار وصفقة الأسرى ستكونان بداية لمسار أوسع يمكن أن يؤدي إلى إنهاء الحرب. وتهدف الصيغة الجديدة إلى تقديم ضمانات للمقاومة بأن نتنياهو لن يتمكن من اتخاذ قرار أحادي الجانب بإنهاء وقف إطلاق النار واستئناف القتال، كما حدث في شهر مارس.
وقال مصدر مشارك في المفاوضات: "الاقتراح الجديد يحاول إقناع المقاومة بأن الأمر يستحق المضي قدمًا في صفقة جزئية الآن، لأنها قد تؤدي إلى إنهاء الحرب في المستقبل".
وقالت المصادر إن نتنياهو أعطى ردًا إيجابيًا من حيث المبدأ، ولكن مع كثير من الشروط والتحفظات. ولم تعطِ المقاومة حتى الآن جوابًا إيجابيًا، وبحسب مصادر فإن الحركة تطالب بوعد واضح بأن وقف إطلاق النار المؤقت يمكن أن يؤدي إلى وقف دائم.
وقال مسؤول في الاحتلال: "محادثات الدوحة في الأيام الأخيرة ليست سوى جزء من جدول أعمالها. هذا ليس المكان الذي تجري فيه المحادثات الحقيقية الآن. إذا وافقت المقاومة والاحتلال على مبادئ اقتراح ويتكوف، فسيتم نقل المحادثات إلى الدوحة لإجراء مناقشات تفصيلية".
وقد أعرب مسؤولون كبار في المقاومة عن خيبة أملهم لأن إطلاق سراح عيدان ألكسندر لم يؤدِّ إلى موقف أميركي أكثر إيجابية تجاه الحركة، بحسب مصدر مطلع على الأمر.
وقد أدى الهجوم الإسرائيلي في اليوم التالي، والذي استهدف محمد السنوار، قائد الجناح العسكري لحركة حماس، إلى زيادة الإحباط داخل قيادة المقاومة بشأن المفاوضات مع إدارة ترامب بشأن وقف إطلاق النار وصفقات تبادل الأسرى.
وقال ويتكوف في برنامج "هذا الأسبوع" على قناة "إيه بي سي": إن ترامب يشعر بالقلق إزاء الأوضاع الإنسانية في غزة، وأضاف: "لقد أوضح لنا مسؤولو الاحتلال أنهم سيسمحون بدخول عدد أكبر بكثير من الشاحنات، لكن الأمر معقد من الناحية اللوجستية... نحن لا نريد أن نرى أزمة إنسانية - ولن نسمح بحدوث ذلك في ظل وجودنا".
تعقيب "عروبة":
بالنظر إلى مجمل التطورات المتداخلة، يتضح أن نتنياهو يقود الاحتلال في مسار بالغ الخطورة، يجمع بين توسيع آلة القتل والدمار في غزة، ومحاولة التلاعب بسير المفاوضات لكسب الوقت وإعادة ترتيب أوراقه الداخلية.
فبينما تُروج ماكينة الإعلام العبري لانفراجات وهمية بهدف امتصاص الضغوط الدولية وتهدئة الشارع الإسرائيلي، يُواصل جيش الاحتلال تنفيذ مخططاته التوسعية تحت غطاء "مفاوضات تحت النار"، ما يكشف عن نية مبيّتة لإبقاء الحرب مفتوحة واستثمارها سياسيًا إلى أبعد مدى.
وفي المقابل، تُبدي المقاومة تمسكًا واضحًا بموقفها الثابت بضرورة الربط بين أي صفقة وأفق واضح لإنهاء الحرب، ورفضها لعودة الاحتلال إلى سياسة الغدر التي اعتمدها في مارس الماضي.
الضغط الأميركي المتصاعد، وإن كان مدفوعًا بالخشية من المجاعة والانهيار الكامل في القطاع، إلا أنه لا يزال بعيدًا عن إنتاج تحوّل جوهري في السياسة الأميركية، بل يعكس قلقًا من تداعيات إنسانية لا سياسية. ومن غير المتوقع أن يُثمر عن تغيير في بنية المعادلة إلا إذا ترافقت الضغوط مع تحوّل في ميزان القوة على الأرض أو تبدّل حقيقي في الموقف الفلسطيني والعربي.
وفي المحصلة، فإن ما يجري هو سباق بين خيارين: أن تُفرض معادلة إنهاء الحرب بفعل الصمود والضغط والتفاوض المتزن، أو أن تستمر المناورات على حساب الدم الفلسطيني، وسط صراع إرادات مفتوح لم تُكتب نهايته بعد.