تستمر المقتلة، ويتواصل الصمود، بينما يبدو الارتباك جليًّا في الخطوات الإسرائيلية، عسكريًّا وسياسيًّا. إذ يرون بأم أعينهم كيف تتبدد آمالهم وتتلاشى أهداف حربهم. فقد آمنوا منذ البداية أن ما جرى في 7 أكتوبر ليس سوى فرصة يجب استغلالها في كل الاتجاهات: لتغيير المنطقة برمّتها، عبر فرض هيمنة إسرائيلية كاملة، وهو المعنى الحقيقي لاستبدال نظرية الحرب التقليدية بنظرية "الحرب الدائمة".
وكان الهدف الأهم تدمير غزة وطرد أهلها، تمهيدًا لحسم الصراع في الضفة الغربية أيضًا، وتصفية القضية الفلسطينية برمّتها عبر إعلان السيادة على كامل الأراضي الفلسطينية. لكن يكفي أن يبقى شعب غزة صامدًا في أرضه، رغم التدمير المنهجي والإبادة الجماعية، ويكفي أن ينتقل العالم، رغم الاحتلال وأمريكا، إلى مرحلة الاعتراف بفلسطين، للدلالة على فشل إسرائيل، الذي ترافق مع فشل صاعق آخر في إخفاء الصورة الحقيقية وإقناع العالم بسرديتها الزائفة.
إن موقف شعوب العالم، والتظاهرات التي هزّت أركان السردية الإسرائيلية، وأظهرت الحق العربي، ليس إلا تعبيرًا مباشرًا عن هذه الحقيقة. ومن الطبيعي أن يفضي هذا إلى بروز تناقضات حادة داخل المجتمع الإسرائيلي، وفي داخل القيادتين السياسية والعسكرية. وتكفي الأنباء المتواترة حول الخلاف بين القيادة السياسية والعسكرية بشأن "النصر الحاسم في غزة" للدلالة على ذلك. فقد وصلت الحملات الإعلامية التي شنّها اليمين المتطرف في الحكومة ضد رئيس الأركان وقيادة الجيش إلى حد التهديد بالاستقالة.
الجنرال إيال زامير خيّب آمال نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، ولم يحقق لهم "النصر المطلق" في غزة. والأسوأ من ذلك، أنه وضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تحمّل المسؤولية شخصيًّا عن قرار احتلال غزة، بما يعنيه ذلك من إبادة شاملة لمئات آلاف الفلسطينيين ومقتل الأسرى الإسرائيليين ومئات الجنود، وإما الذهاب نحو إبرام صفقة تبادل أسرى وإنهاء الحرب.
وطبعًا، فإن إبرام صفقة تنهي الحرب يُعد إقرارًا صريحًا ليس فقط بفشل أهداف الحرب، بل بفشل المنهج اليميني في فرض رؤيته لحل القضية الفلسطينية. وقد تراجعت صورة الجيش في نظر القيادة السياسية والمجتمع الإسرائيلي بعد أن ظهرت آثار الحرب، خصوصًا في غزة، على هذا الجيش: عزوف المجندين عن الانضمام للوحدات القتالية، ورفض جنود الاحتياط العودة إلى الخدمة بسبب طول المدة، والخوف من دخول غزة مجددًا، ناهيك عن تآكل المعدات والأسلحة.
فالجيش، باستثناء سلاحَي الجو والمدفعية، لم يكن سوى حارس لجرافات التدمير ووحدات الهندسة العسكرية، التي أوكلت إليها مهمة تسوية القرى والمدن والمخيمات والمزارع بالأرض. ولا دلالة على هذا الواقع الصعب أكثر من الأنباء عن نية الجنرال زامير الاستقالة، أو تهديده بها.
وفي هذا السياق، كتب كبير معلقي صحيفة يديعوت أحرونوت، ناحوم بارنيع: "غدًا، تنتهي أول 150 يومًا من ولاية إيال زامير كرئيس للأركان. وبغض النظر عن عدد الأيام، فإنها تُعدّ أسبوعًا دراماتيكيًا. الأزمة بينه، بصفته الممثل المعتمد للجيش الإسرائيلي، وبين القيادة السياسية، حقيقية: تتجاوز التقارير الروتينية عن مراسم الإذلال في مجلس الوزراء أو التصريحات المتهورة للوزراء.
إذا تم التوصل إلى اتفاق بشأن الأسرى، فسيكون هناك وقف لإطلاق النار على هذه الجبهة أيضًا. أما إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فستتفاقم الأزمة، وقد تصل إلى مرحلة يُفكر فيها رئيس الأركان بإنهاء ولايته. زامير لديه رصاصة واحدة في فمه: لا أعرف ما إذا كان سيستخدمها، ومتى، وكيف. لكن إذا دققت النظر، فإن الرصاصة موجودة، جاهزة، مُحمّلة، ومُحكمة الإغلاق."
الجميع ينتظر القرار بشأن الوجهة القادمة: هل ستكون صفقة تبادل، أم تمركزًا دفاعيًّا، أم احتلالًا شاملًا؟ لا يعني ذلك أن قرارًا سيُتخذ، فنتنياهو غالبًا ما يُفضّل الخيار الآخر: "عدم اتخاذ قرار". لكن في هذه الحالة، قد يجد زامير نفسه مضطرًا لاتخاذ القرار بنفسه، ويبدو أنه يعرف ما يريد.
وقد قدّم زامير للوزراء خطة للمستقبل: تقضي بتقليص قوة الجيش الإسرائيلي المنتشرة في غزة بشكل كبير، وإعادة نشرها على خطوط دفاعية مناسبة داخل القطاع، فيما يسميه الجيش "المحيط المعزز". سيستمر الجيش في تنفيذ غارات على بنك أهدافه، وإطلاق النار، واغتيال من يصفهم بـ"الإرهابيين". وستبقى جميع بوابات غزة، برًّا وبحرًا، تحت سيطرة الجيش، بحيث لا يدخل أحد ولا يخرج، ضمن طوق محكم بزاوية 360 درجة.
بمعنى ما، تعيد هذه الخطة الجيش إلى الوضع السابق لعملية "مركبات جدعون"، مع فارق أن المناطق المحتلة – التي تمثل حوالي 75% من مساحة القطاع – ستكون خالية، أو شبه خالية، من وجود فعّال للمقاومة الفلسطينية.
تعقيب عروبة:
الاحتدام في النقاش بين المستويين العسكري والسياسي هو في جوهره اجترار من نتنياهو للعبته الدائمة، القائمة على نقل الجدل إلى مواجهة بين حلفائه في اليمين الصهيوني والمستويات المهنية، التي يُمثّلها في هذه الحالة الجيش. وذلك بهدف تجنّب أن يكون هو طرفًا مباشرًا في المواجهة مع أطروحات سموتريتش وبن غفير الداعية إلى احتلال القطاع.
وفي المقابل، يستمر نتنياهو في إطلاق الوعود التوسعية، مُبقيًا بذلك الحرب النفسية مفتوحة، ومُتيحًا المجال أمام احتمالات متعددة لمستقبل الحرب وتدحرجها، في إطار إصراره على استكمال عملية الإبادة الشاملة لقطاع غزة وإفراغه من سكانه.
ويمكن القول إن الميل الرئيسي في هذه المرحلة هو تجنّب اتخاذ قرارات دراماتيكية ميدانية خلال الأيام القادمة، والاتجاه نحو تبنّي وجهة نظر جيش الاحتلال ورئيس أركانه، عبر إقرار نمط عملياتي ضاغط ومتصاعد بشكل تدريجي، يُبقي باب التفاوض مفتوحًا، ويُخفف من حدة النقد الدولي المتصاعد، خصوصًا على خلفية مشاهد التجويع الجماعي في القطاع.
وفي الوقت ذاته، يبقى الباب مفتوحًا أمام سيناريوهات تصعيدية أكثر حدّة في المستقبل، خاصة بعد التوصّل إلى تفاهمات ناجزة مع بعض الدول التي قد تُبدي استعدادًا لاستقبال سكان من قطاع غزة، في محاولة لخلق "كسر رمزي أولي" لفكرة فشل مخططات التهجير القسري، والتي يُروَّج لها زورًا تحت مسمى "الهجرة الطوعية".