مع حلول الخميس الموافق الحادي عشر من كانون الثاني/يناير تبدأ أُولى جلسات قضية القرن أمام "محكمة العدل الدولية"، إذ ستمثل "إسرائيل" أمام المحكمة في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا حول الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
القضية:
في 29 كانون الأول/ديسمبر 2023، قدَّمَت جنوب أفريقيا طلبًا ضد "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات "إسرائيل" لالتزاماتها بموجب "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" تتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة. أُسِّسَ هذا الانتهاك على مسألتين رئيسيتين: الأولى تورُّط "إسرائيل" في جريمة الإبادة ضد الفلسطينيين، والثانية فشَل "إسرائيل" بوصفها دولة في منع وقوع جريمة الإبادة الجماعية. وطلبت دولة جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية اتخاذ تدابير مؤقَّتة تقضي بإصدار قرار بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة لحماية الحقوق التي يدَّعَى بها في الطلب من خسارة وشيكة لا يمكن إصلاحها.
قدَّمَت جنوب أفريقيا ملفًّا قانونيًّا يتألف من أربع وثمانين صفحة، يقول إن أفعال "إسرائيل" "تَحمِل طابعَ الإبادة لأنها تهدف إلى الدمار بجزء كبير" من الفلسطينيِّين في غزة. وتَدفَع جنوب أفريقيا بأن "الأفعال والتقصيرات التي قامت بها إسرائيل والتي اشتكت منها جنوب أفريقيا ذات طابع إبادة جماعية لأنها تهدف إلى تدمير جزء كبير من المجموعة الوطنية والقومية والإثنية الفلسطينية، والتي هي الجزء الموجود في قطاع غزة من الشعب الفلسطيني (الفلسطينيون في غزة)".
ويحدِّد الملفُّ أفعالَ الإبادةِ الجماعيةِ المرتكَبةَ ضد الشعب الفلسطيني بالتالي:
- قتل الفلسطينيين في غزة.
- التسبب في أضرار جسدية وعقلية جسيمة للفلسطينيين في غزة.
- الطرد الجماعي من المنازل وتهجير الفلسطينيين في غزة.
- حرمان الفلسطينيين من الحصول على الغذاء والماء الكافي.
- حرمان الفلسطينيين في غزة من الوصول إلى المأوى الملائم والملابس والنظافة والصرف الصحي.
- الحرمان من المساعدات الطبية الكافية للفلسطينيين في غزة.
- تدمير الحياة الفلسطينية في غزة.
- فرض إجراءات تهدف إلى منع الولادات الفلسطينية.
- التعبير عن نية الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني من قبل مسؤولي "الدولة الإسرائيلية" وآخرين.
- تحديد نية "إسرائيل" الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.
ما محكمة العدل الدولية (ICJ) وما دورها:
- أعلى محكمة في الأمم المتحدة، ومهمَّتها البتُّ في النزاعات بين الدول.
- يتمثل دورها في تسوية المنازعات القانونية المقدمة من دولة أو أكثر وفقًا للقانون الدولي.
- تقدم الرأي الاستشاري بشأن المسائل القانونية التي تحيلها إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة (UNGA) أو مجلس الأمن (UNSC).
- تتألف محكمة العدل الدولية من خمسة عشر قاضيًا، كل منهم يحمل جنسية مختلفة، يُنتَخَبون لمدة تسع سنوات من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
- يجب أن يُوزَّع القضاة جغرافيًّا بشكل عادل، وأن يُختاروا بطريقة تكفل تمثيل النظم القانونية الرئيسية في العالم.
- يقع مقر محكمة العدل الدولية في لاهاي، هولندا.
- أنشِئت محكمة العدل الدولية بموجب ميثاق الأمم المتحدة في العام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
- تتمتَّع كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تلقائيًّا بعضوية محكمة العدل الدولية.
- يمكن لأي دولة أن ترفع قضيةً أمام محكمة العدل الدولية.
- من ضمن اختصاصات المحكمةِ النظرُ في النزاعات المتعلقة باتفاقية الإبادة الجماعية للعام 1948.
- القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية (أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة) مبرمة ولا يمكن للدول استئنافها، لكن المحكمة لا تملك أيةَ وسيلة لتطبيقها.
الإبادة الجماعية:
حسب اتفاقية "منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، الصادرة عن الأمم المتحدة في العام 1948، تعني الإبادة ارتكاب أعمال بقصد التدمير الكلِّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، وتشمل تلك الأعمال:
- قتل أعضاء من الجماعة.
- إلحاق أذى بدني أو نفسي خطير بأعضاء من الجماعة.
- إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا.
- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
- نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
- حسب اتفاقية العام 1948، "يعاقَب مرتكِبو الإبادة الجماعية سواءٌ كانوا حكامًا دستوريين أو موظفين عامين أو أفرادًا".
- يمكن توجيه تهمة ارتكاب الإبادة الجماعية لدول أو لأفراد.
- جنوب أفريقيا و"إسرائيل" من الدول الموقِّعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقَبة عليها، والتي أُقِرَّت في العام 1949 ردًّا على مجازر الإبادة في حق اليهود في خلال الحرب العالمية الثانية.
وتدفع جنوب أفريقيا في الطلب المقدَّم من طرفها أن تصرفات "إسرائيل" في غزة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، إذ تَستَهدِف الشعب الفلسطيني – الجماعة الفلسطينية في قطاع غزة. وتشمل أعمالُ الإبادة الجماعية قتلَ الفلسطينيين، والتسبب في أضرار جسدية وعقلية خطيرة، وفرض ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسديًّا. وتؤكِّد جنوب أفريقيا أن هذه الأفعال تنسب إلى "إسرائيل"، التي فشلت في منع الإبادة الجماعية وتنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية. ويشير الطلب إلى أعمال محدَّدة نفَّذتها "إسرائيل"، مثل قتل الأطفال الفلسطينيين، والتهجير الجماعي، وتدمير المنازل، والحرمان من الضروريات الأساسية، والتدابير التي تعيق الولادات الفلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، يسلِّط الطلبُ الضوء على استهداف جامعات غزة وتدمير المراكز الثقافية.
المَطالب المحدَّدة التي قدَّمَتها جنوب أفريقيا في هذه القضية:
- الوقف الفوري للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.
- التأكد من أن أية وحدات مسلحة عسكرية أو غير نظامية خاضعة لسيطرة "إسرائيل"، وكذلك المنظمات والأفراد الخاضعين لسيطرتها، لا تتخذ أية خطوات لتعزيز العمليات العسكرية المذكورة في الطلب الأول.
- أنه يجب على كل من جنوب أفريقيا و"إسرائيل"، وفقًا لالتزاماتهما بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، اتخاذُ جميع التدابير المعقولة في حدود سلطتهما لمنع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
- أن "إسرائيل" مطالَبة بالكف عن ارتكاب الأفعال المنصوص عليها في المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك قتل أعضاء الجماعة الفلسطينية، والتسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير، وتعمُّد إلحاق أحوال معيشية تؤدي إلى التدمير الجسدي، وفرض تدابير لمنع الولادات داخل الجماعة.
- أنه يجب على "إسرائيل" أن تُوقِف إجراءاتِها، بما في ذلك إلغاء الأوامر والقيود والمحظورات ذات الصلة، لمنع الطرد والتهجير القسري والحرمان من الوصول إلى الغذاء والماء والمساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية وتدمير حياة الفلسطينيين في غزة.
- التأكد من أن الجيش "الإسرائيلي" أو الوحدات المسلحة غير النظامية أو الأفراد المتأثرين به لا يرتكبون الأفعال الموصوفة في المطلبين 4 و5، واتخاذ خطوات نحو العقاب في حالة حدوث مثل هذه الأفعال.
- أنه يجب على "إسرائيل" اتخاذ تدابير فعالة لمنع تدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بمزاعم ارتكاب أفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، وبما يضمن السماح لبعثات تقصِّي الحقائق والجهات الدولية بالوصول إلى غزة لهذا الغرض.
- تقديم تقرير إلى المحكمة بجميع الإجراءات المتَّخَذة لتنفيذ الأمر في خلال أسبوع من صدوره، وعلى فترات منتظَمة حتى صدور القرار النهائي في القضية.
- أنه يجب على "إسرائيل" الامتناع عن أي عمل قد يؤدي إلى تفاقم النزاع المعروض على المحكمة أو إطالة أمدِه أو يجعل حلَّه أكثرَ صعوبة.
التدابير المؤقَّتة:
سبل انتصاف مؤقَّتة تُمنَح في ظروف خاصة لتجنُّب أيَّ إجراءٍ قد يؤدي إلى تفاقم النزاع أو اتساعه، في الوقت الذي تستمر فيه إجراءات المحكمة في المرحلة التالية، وتُعادِل تقريبًا الأوامرَ القضائيةَ المؤقَّتةَ في المحاكم الوطنية (الإجراءات المستعجلة)، ولها الأولوية على جميع القضايا الأخرى المعروضة على محكمة العدل الدولية لإلحاحها. وهنا تطلب جنوب أفريقيا من المحكمة أن تأمر بتدابير مؤقَّتة في ضوء أعمال الإبادة الجماعية المستمرة والمتصاعدة التي ترتكبها "إسرائيل".
وتقول جنوب أفريقيا إن التدابير المؤقَّتة ضرورية في هذه القضية "للحماية من المزيد من الضرر الشديد وغير القابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، والتي ما تزال تُنتَهَك مع استمرار الإفلات من العقاب". في حين أن هذا لا يتعلق مباشرةً بـ"الحقوق الخاصة لأي من الطرفين"، فإن جنوب أفريقيا تستخدم مبدأ " erga omnes partses" أو مبدأ "الالتزامات تجاه الجميع"، لتقديم هذا الطلب.
وطلبت جنوب أفريقيا من المحكمة إصدار أوامر عدة، منها أن "تعلِّق إسرائيل فورًا" هجومَها في قطاع غزة، ووضع حد للتهجير، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية، والمحافَظة على الأدلة.
وكما هو الحال مع الأوامر المؤقَّتة الصادرة عن المحاكم الوطنية، تسعى التدابير المؤقَّتة لمحكمة العدل الدولية إلى تجميد الوضع القانوني بين الأطراف لضمان نزاهة الحكم النهائي في المستقبل، وقد أصدرت المحكمة تدابير مؤقَّتة في إحدى عشرة قضية، مقارنة بعشرة قضايا في الخمسين سنة الأولى من وجود المحكمة (1945-1995).
ويمكن لمحكمة العدل الدولية فرضُ التدابير التي تطالِب بها جنوبُ أفريقيا، أو رفضُها، أو إصدار أوامر أخرى مختلفة تمامًا، وقد تقرِّر أيضًا أنها ليست الجهة المختصة في هذه القضية.
التداعيات:
- قد يكون لأيِّ حُكمٍ ضد "تل أبيب" آثارٌ كبيرة، من بينها إصدار مذكرات اعتقال بحق قادتها، ولو بعد حين.
- الإجراءات الاستثنائية قرارات مستعجلة تَصدُر عن المحكمة، وهي ملزِمة وتتعلق في هذه الحالة بطلب جنوب أفريقيا إصدار قرار بوقف المعارك.
- سيكون للقرار الذي ستتخذه المحكمة لصالح أو ضد دعوة جنوب أفريقيا أثرُه الكبير، لأن المحكمة تمثِّل ثقل القانون، ورفض التنفيذ أمر خطير جدًّا.
- قد يُستخدَم صدورُ حُكمٍ ضد "إسرائيل" من محكمة العدل الدولية (المعنية بالفصل بين الدول ولا تصدر مذكرات اعتقال) أيضًا لإدانة "تل أبيب" في القضية المرفوعة ضدها أمام المحكمة الجنائية الدولية المعنية بالفصل بين الأفراد.
- يَحظر القانونُ الأمريكيُّ المعروفُ بِاسم "قانون ليهي" (Leahy Law) تقديمَ المساعدة العسكرية لأية قوات عسكرية أجنبية متورطة في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وإن كان هذا الأمر حاليًّا مثار جدل في الولايات المتحدة، لكنَّ الدعم المالي والعسكري الأمريكي لـ"إسرائيل" بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية ينطوي على مَخاطر قانونية مؤكَّدة غير خاضعة للنقاش.
- سيؤدي رفضُ الامتثال لقرارات المحكمة -وهو أمر متوقع في هذه القضية- إلى تقويض مشروعية المحكمة بشكل كامل.
- تنص المادة 94 (1) من الفصل الرابع عشر من ميثاق الأمم المتحدة على أن "يتعهد كل عضو في الأمم المتحدة بالامتثال لقرار محكمة العدل الدولية في أي قضية يكون طرفًا فيها". وتنص المادة 94 (2) على أنه في حالة عدم الامتثال، "يجوز لمجلس الأمن، إذا رأى ضرورة لذلك، أن يقدِّم توصياتٍ أو يقرِّر التدابير التي يتعين اتخاذها لتنفيذ الحكم".
- من واجب الأمين العام للأمم المتحدة أيضًا ضمان الامتثال للحُكم عملًا بالمادتين 98 و99 من ميثاق الأمم المتحدة.
- الممر لتنفيذ قرار المحكمة من خلال الأداة التنفيذية للأمم المتحدة وهو مجلس الأمن واحتمال استخدام الفيتو الأمريكي أمر قائم أيضًا. ولن يكون سهلًا على الإدارة الأمريكية التصدي لقرار محكمة دولية وتقويض شرعيتها أمام العالم.