أزعم أن العقل الصهيوني المتكئ على المصدر التوراتي من ناحية، والمصدر الفلسفي الغربي من ناحية ثانية، لا يرى مفهوم السلام بأنه الحالة الطبيعية في الكون، بل إن الصراع والتناقض هما قاعدة التغير والتقدم من خلال توظيف القوة بأشكالها الخشنة والناعمة. والسلام ليس إلا إدارة الصراع والتناقض في إحدى مراحله بأدوات ناعمة، انتظارًا للعودة لإدارته في مراحل أخرى بالأدوات الخشنة. فالتوراة (سفر التثنية، العدد 31) تنص حرفيًا: "احرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار".
أما جابوتنسكي، صاحب الموقع المركزي في الفكر الصهيوني، فلا يرى التاريخ إلا من "صناعة الأحذية الثقيلة" (أي الجيوش). وتعززت فكرة القوة هذه بأن أغلب مفكري الصهيونية نهلوا من فكر غربي يجعل من التناقض والصراع أداة التغير (من السوفسطائيين إلى هيغل وماركس ونيتشه ومورغانثو ونيبهور إلى أدبيات المحافظين الجدد... إلخ).
ويكفي أن نشير إلى أن المسيح عيسى (الفلسطيني المشرقي) تم تفسير دعوته لإدارة الخد الأيسر لمن يصفعك على الخد الأيمن بأنها تعني عند نيتشه أن تستل سيفك لأنه يتدلى على جانبك الأيسر، فنظرة المسيح في أعماقها فردية توافقية، بينما نظرة نيتشه جماعية صراعية.
بالمقابل، ومع أن "بعض" الفكر العربي (تراثًا وأدبًا) ينطوي على تمجيد للقوة، إلا أن ثقافة "التوفيق" بين المتناقضات هي الأساس في فهم التطور والسلام، كما أن العربي لا يميز بين إدارة العلاقات الفردية وبين إدارة العلاقات السياسية والدولية، وتطغى مفاهيم العلاقات الفردية على مفاهيم خصوصية العلاقات الدولية.
ففي العلاقات الفردية (البيع والشراء، والتقدم لخطبة فتاة، أو علاقات الجيران، أو القوانين العشائرية في قضايا القتل أو الاغتصاب أو غيرها، أو الواسطة لفعل الخير وإصلاح ذات البين... إلخ) تتبدى ثقافة "التوفيق" بين الأطراف بأنها هي الأساس. فالعربي غالبًا ما كان صادقًا في سعيه للسلام، لكن مشكلته أنه لا يفهم التفريق بين القيم السياسية التي تحكم المؤسسات والدول وبين القيم الاجتماعية التي تحكم العلاقات الفردية.
ولعل المثال الصارخ لذلك هو عندما طلب الرئيس السيسي من الرئيس الإثيوبي أن "يحلف يمينًا" بخصوص سد النهضة... أو الطريقة التي فهم بها الفلسطينيون والعرب اتفاقاتهم وتطبيعهم مع إسرائيل. بل إن السادات اعتبر أن 99% من المشكلة بين العرب وإسرائيل سببها ما أسماه "الحاجز النفسي". بل إن أحاديث العرب عن ازدواجية المعايير عند الغرب تشير إلى أن العرب لا يدركون أن ازدواجية المعايير تكتيك سياسي مقبول ومشروع في إدارة العلاقات الدولية الصراعية.
أنا أدعو القارئ العربي للعودة إلى كتابين هامين في الفكر الصهيوني المعاصر:
الكتاب الأول هو Arab Attitudes to Israel الذي كتبه Yehoshafat Harkabi عام 1972، وقد عمل الكاتب مديرًا للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية من 1955 إلى 1959، وأستاذًا في الجامعة العبرية.
وخلاصة الكتاب، الذي يقوم بتحليل الخطاب العربي الصريح والضمني تجاه إسرائيل، أن العرب لن يقبلوا إسرائيل إلا بالقوة. وهو لا يرى فرقًا بين جورج حبش (رئيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تلك الفترة) وبين بيير الجميل (زعيم حزب الكتائب اللبناني حينها)، فالأول من منظور هاركابي يجب إخضاعه بالقوة، والثاني أدرك فارق القوة فتقبل إسرائيل. أي أن القوة الإسرائيلية هي مفتاح موقف كل منهما. ويتواصل الكتاب (551 صفحة) على هذا النحو من التحليل، منبهًا إلى أن أي تطور عربي، مهما كان بسيطًا، هو إخلال بموازين القوى ويجب منعه.
أما الكتاب الثاني، فهو لِأستاذ عمل أيضًا في الجامعة العبرية، هو Yehezkel Dror، وعنوانه Crazy State، تم نشره عام 1971، والذي يحاول فيه إقناع العرب بأن إسرائيل، في حالة الموقف الحرج، قد تلجأ إلى سلاحها النووي. لكنه – ومن منطلق القوة – يضع فرضية على إسرائيل أن تضعها في الاعتبار، وهي أن تمتلك التنظيمات المعادية أو دول معادية لإسرائيل السلاح النووي. وهو ما أعادت تأكيده دراسة لجامعة الدفاع الوطني الأمريكية (العدد 3 - 2018) بأن التنظيمات ستصل للسلاح النووي في عام 2050 على أقصى تقدير، وربما قبل ذلك، وهو ما يجب منعه عن العرب بالقوة.
إن خلفية هذا التفكير هي أن أغلب المفكرين الصهاينة يرون أن الخبرة التاريخية العربية تشير إلى أن العرب خضعوا لأنماط مختلفة من السيطرة الأجنبية (الرومان، الفرس، التتار، العثمانيون، الإنجليز، الفرنسيون، الصليبيون... إلخ)، وما أن استشعر العرب القوة حتى عادوا للصراع وانتصروا، لذلك على إسرائيل أن تتجنب الخطأ الذي وقعت فيه تلك القوى الأجنبية، بأن لا تسمح للعرب بأن يتطوروا (فيتو على التطور العربي) لكي لا يتكرر المشهد التاريخي.
ذلك يعني أن على العرب أن يدركوا أن إسرائيل لا تثق في سلامهم مهما قدموا من آيات الخضوع والاستسلام، ومفهوم السلام عندها أن يبقى العرب ضعفاء، ولا يتم ذلك إلا بأدوات تبقيهم على ضعفهم، من خلال أدوات يلخصها المفكرون الإسرائيليون في:
- توظيف الدول الكبرى عبر التلاعب بمصالحها لإبقاء العرب في حالة ضعف.
- تأجيج الخلافات العربية البينية بكل الطرق الفكرية والسياسية والاقتصادية (شيعي وسني، مسلم ومسيحي، الوطنيات الضيقة، الريف والمدينة، الغني والفقير، قضايا الحدود... إلخ).
- المطالبة الدائمة بتغيير مناهج التعليم في العالم العربي وحذف النصوص الدينية المعادية لليهود أو الدافعة للعرب نحو عناصر القوة.
- التجسس على العرب (فمصر صاحبة الخطوة الأولى في التطبيع والسلام مع إسرائيل كشفت بعد المعاهدة عن عشرات شبكات التجسس، بدءًا من أول اكتشاف عام 1985 "شبكة تجسس تضم 9 أفراد"، إلى داليا زيادة، مديرة المركز المصري للدراسات الديمقراطية الحرة، التي فرت إلى إسرائيل – نوفمبر 2023. وقد بلغ عدد الجواسيس الذين تم كشفهم أعوام 1985 و1986 و1987 و1990 و1992 إلى الآن أكثر من 74 حالة).
- تنامي الأحزاب السياسية الإسرائيلية الأكثر تأييدًا لاستخدام القوة مع العرب، فاليمين الإسرائيلي منذ 1977 إلى الآن يتنامى، بينما "اليسار الإسرائيلي، على عِلاته، يتراجع إلى حدود القوى الهامشية". ولو قارنا بين التوجهات السلامية وبين توجهات النزعة الحربية في المجتمع الإسرائيلي، سنجد ذلك كما يلي (ويمكن العودة إلى Jewish (Library:
أ. ارتفعت نسبة الذين لا يثقون بالسلام مع العرب من 61 إلى 74%.
ب. ارتفعت نسبة الذين لا يؤيدون قيام دولة فلسطينية من 62 إلى 73%.
ت. الذين يرفضون أي اعتراف بحركة حماس كسلطة فلسطينية 88%.
ث. الذين يوافقون على العودة لحدود 1967 يشكلون 13% فقط. - مساندة كل الدول التي لها علاقات متوترة مع العرب، وهو ما يتضح تمامًا في التغلغل في القارة الإفريقية، بخاصة الدول المجاورة للدول العربية مثل دول الساحل وإثيوبيا وكينيا... إلخ.
- الاعتراض على مشاريع نووية في المنطقة العربية، وإصرارها على احتكار السلاح النووي في المنطقة.
خلاصة المشهد:
أود أن أطرح سؤالًا محددًا: منذ 1979 إلى الآن، ورغم السلام والتطبيع، فإن العالم العربي يقف حاليًا في المرتبة الأولى بين أقاليم العالم الجيوسياسية والجيواستراتيجية في مستوى عدم الاستقرار. فنسبة الاستقرار في العالم العربي هي أقل من نصف معدل الاستقرار العالمي (2.2 للعرب مقابل 5.3 للعالم). كما أن العالم العربي يحتل المراتب الأخيرة في الديمقراطية، وفي الإنفاق على البحث العلمي، وفي الفروق الطبقية، وفي معدلات الجريمة الاجتماعية، ويحتل مراتب عليا في معدلات الإنفاق على الدفاع، وترتفع موازناته العسكرية بشكل دائم.
ومع ذلك، فإن عدد قتلى الحروب الدولية والأهلية في العالم العربي هو الأعلى عالميًا. ومع كل هذه الأوزار نصر على أن السلام هو الخيار الأفضل، بينما يصر الآخر على خضوعنا المطلق... هل اتضحت صورة الفرق بين السلام في العقلين؟ إن الفرق كبير بين عقلية المختار والعمدة وشيخ القبيلة، وبين عقلية الاستراتيجي.