حَملَ المؤتمرُ الصحفيُّ لرئيس وزراء كيان الاحتلال، "بنيامين نتنياهو"، و"ترويكا" مجلس الحرب الصهيوني، مجموعةً من الإشارات التي تدلِّل على تراجُع وإعادة صياغة أهداف الحرب، وترك الباب مواربًا في عدة قضايا، خصوصًا قضية الأسرى والتبادل.
في أهداف الحرب، تراجَعَ "نتنياهو" ضمنيًّا عن الهدف الذي سبق أن رفعَه وحكومته، والمتمثل بالقضاء على "حماس"، والذي مثَّل عنوانَ إثارةٍ للجدل كونه هدفًا من المستحيل تحقيقه بالعمليات الحربية المباشرة وفي أي مدى قصير، ناهيك عن أن مثل هذه الأهداف غير قابل للقياس، ما سبق وأُثِير حوله العديد من النقاشات والملاحظات، خصوصًا من حلفاء الاحتلال الأبرز، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، وحمل الخلاف على الهدف خلافًا على انعدام وجود استراتيجية حول كيف وماذا بعد تحقيق الهدف؟ "ماذا بعد؟".
استخدَم "نتنياهو" توصيفاتٍ مختلفةً في مؤتمره الصحفي، مثل "القضاء على القدرات العسكرية والسلطوية لـ"حماس""، و"ضمان عدم قدرة "حماس" على تنفيذ هجمات"، ما يعني التراجعَ وتخفيفَ السقفِ إلى سقف يمكِّنه في المستقبل القريب من ادِّعاء تحقيق إنجازات بشأنها.
أمَّا في عنوان الجنود والمستوطنِين الأسرى لدى المقاومة، والذي جاء المؤتمر الصحفي بعد لقاءٍ لـ"نتنياهو" مع عائلاتهم، لم يُحدِّد "نتنياهو" الشكلَ المفترَضَ لإطلاق سراحهم، ولم ينفِ أنَّ خيار التبادل مطروحًا كما لم يؤكِّده، إلا أنَّه تجنَّبَ إعطاءَ أية توضيحات سوى الالتزام بإعادتهم وتحريرهم، بالتالي فإنه يتجنب تقديم التزامات بأن هذا التحرير سيكون عبر خيار العمليات الحربية العسكرية، وترك خيار التبادل متاحًا. وفي السياق ذاته، وفي معرض إجابته على سؤال حول صفقة "شاليط" وتخطئة حجم الصفقة ونوعية الأسرى الذي أُطلِق سراحهم فيها، رفض "نتنياهو" التخطئة، عادًّا أنَّه توجَد ظروف محدَّدة تحكم كلَّ عملية وأن للتقييم وقت آخر، ما يعزِّز رفضه قطع الطريق أمام عمليات التبادل الممكنة مستقبلًا.
في العنوان ذاته المتعلق بإطلاق سراح المستوطنِين والجنود الأسرى لدى المقاومة، كان خطاب وزير الحرب الصهيوني، "يؤاف غالانت"، أكثرَ حدَّةً من بقية أعضاء الفريق الثلاثي الرئيسي في المجلس الحربي، ما يعكس حجمَ الضغط والإهانة وحتى الاندفاعة التي تعاني منها مؤسسة الجيش في كيان الاحتلال، وسعيهم إلى حل نتائج عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر عبر الخيارات العسكرية واستخدام القوة، ما يشمل في طياته الحرصَ على استعادة هيبة الجيش وتعويض الضرر الفادح الذي لحق بـ"الردع" واستعادة ثقة الجمهور الصهيوني بقدرة الجيش على التعامل مع التحدي الكبير الحالي الماثل أمامه، وهو أيضًا يمثِّل محاولةً من وزير الحرب الصهيوني، ولربما لهيئة الأركان، لمحو اللطخة التاريخية التي ستبقى موسومة بأسمائهم وفترة قيادتهم المؤسسةَ العسكرية.
في السياق ذاته، من الواضح أنَّ خلافًا غيرَ بسيطٍ بين "نتنياهو" والمستوى السياسي عمومًا ومؤسسة الجيش في كيان الاحتلال، وانعدام ثقة من "نتنياهو" في تقديرات وتوجُّهات الجيش، ومن الواضح أنَّ هذا الحلاف منعكس على العلاقة المتوترة منذ ما قبل السابع من أكتوبر ما بين وزير الحرب "غالانت" و"نتنياهو"، ما عَكسَ في إعلان "غالانت" انسجامَه وثقتَه في قيادة الجيش و"الشاباك" والاستخبارات، دُون الإشارة إلى انسجامِه مع مجلس الحرب ومع رئيس الوزراء "نتنياهو".
خطاب الزعيم المعارِض سابقًا وعضو مجلس الحرب حاليًّا وأحد وجوه المؤسسة العسكرية في الكيان سابقًا، "بيني غانتس"، كان أقلَّ حدَّةً في ملف الأسرى من وزير الحرب، وقد تعهَّدَ بإعادتهم "بكل الطرق" مشددًا على "كل الطرق والمسارات"، ما يؤكِّد دعمَه الضمنيَّ لخيارات أخرى غير الأعمال الحربية، مثل صفقات التبادل، إلى جانب أنَّ خطابَه حَملَ نوعًا من الدعاية الانتخابية بشكل أو بآخَر، إذ يقدِّم نفسَه بأنه الجنرال الحكيم القادر على تحقيق مَصالح الكيان بعيدًا عن ضعفِ قيادة الجيش الحالية وانتهازيةِ "نتنياهو".
فيما يتعلق بملف تحمُّل المسؤولية عن الفشل الكبير، من الواضح أن "نتنياهو" ما يزال يبحث عن أفق لاستكمال مسيرته السياسية، بالتالي فإنه يتجنب أن يعلن صراحة تحمُّلَه مسؤوليةَ الفشل الكبير في السابع من أكتوبر، على الرغم من الضغط الكبير من الرأي العام والمستويات السياسية في الكيان (حَملَت أغلبية الأسئلةِ التي وُجِّهَت من الصحافيين لـ"نتنياهو" في خلال المؤتمر في طياتِها الضغطَ في اتجاه ضرورة تحمُّل "نتنياهو" المسؤولية، وهي أسئلة تجنَّبَ الإجابةَ المباشرةَ عليها)، فيما تَستَثمِر المعارَضةُ هذه النقطةَ بقوةٍ للضغط على "نتنياهو" لتحمُّل المسؤولية، ما فجَّرَ موجةَ الغضب في الرأي العام على تغريدة "نتنياهو" على منصة "إكس" بتحميل قادة الجيش والاستخبارات والأمن المسؤوليةَ وتهرُّبه منها، وهي تغريدة اضطُّر إلى حذفها والاعتذار عنها فيما بَعد، علمًا بأن "نتنياهو" غرَّدَ بها بعد المؤتمر الصحفي، ومن الواضح أنها ردة فعل على كمية الأسئلة بالخصوص.
أمَّا حول التحركات البرية، فمن الواضح أن حجم العملية البرية وشكلها ما يزالان موضعَ جدل داخلي في كيان الاحتلال، علمًا بأن جيش الاحتلال اضطُّر إلى الاعتراف بالإصابات بعد نشر المقاومة لمقاطع مصوَّرة، فيما نشر المتحدث باسم جيش الاحتلال حول العمليات البرية عادًّا أنها عملياتٌ صعبةٌ تتضمن مخاطر كبيرة، فيما يبدو أن ذلك تهيئة للرأي العام الداخلي في الكيان حول الخسائر التي يتكبدها الجيش، إضافة إلى التقليص المحتمل في سقف وحجم العمليات البرية، والاكتفاء بالتحركات والمناورات الحدودية.
إلى جانب ذلك، فإن حجم الإثارة في الرأي العام حول التحذيرات الأمريكية، وضغط عدد من الدول على الاحتلال للتراجع عن الغزو البري، يَحمِل في طياتِه خطوطَ رجعةٍ لتراجُع مجلس الحرب عن السقف الذي سبق أن رفعَته وهيَّأَت الرأيَ العام له حول حجم وقوة العملية البرية المفترضة.
كخلاصة، على الرغم من محاولات مجلس الحرب الصهيوني إخراجَ صور الوَحدة والتماسك، وتقديم العديد من الادعاءات حول تحقيق "الحرب" على غزة أهدافها، يعكس ما يرشح من التعابير المستخدَمة في المؤتمر الصحفي، والخلاف في التفاصيل ما بينها، وحرص أعضاء "ترويكا" مجلس الحرب الصهيوني على جني الثمار كل حسب حساباته الضيقة، إضافةً إلى ما يبدو أنه عجز استخباراتي عن أي أفق حقيقي لتحرير الأسرى لدى المقاومة بعمليات عسكرية أو أمنية، وتشكيل عامل الزمن ضغطًا على حكومة الاحتلال خصوصًا مع تصاعد الأصوات الدولية والتحركات الشعبية المناهِضة للحرب على غزة، والآثار الاقتصادية لهذه الحرب على الاحتلال والتصنيف الائتماني والتراجع الكبير على سعر صرف عملة "الشيكل"، تُشكِّل مدخلًا لبحث الاحتلال عن مَخارج للنزول عن الشجرة والبحث عن صورة النصر دُون الاضطرار إلى مَشهد أكياس جديدة من جثث الجنود بفعل العملية البرية وتصدِّي المقاومة لها.