تُعدّ مشاريع الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس من أخطر الأدوات التي يوظفها الاحتلال لإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا، غير أن مشروع E1 شرق القدس يكتسب مكانة استثنائية كونه يتجاوز البعد العمراني إلى بُعد سياسي واستراتيجي صريح يهدف إلى إجهاض فكرة الدولة الفلسطينية. فمن خلال ربط مستوطنة "معاليه أدوميم" بالقدس الشرقية، وبناء آلاف الوحدات الاستيطانية على مساحة شاسعة من الأراضي المصادَرة، يسعى المشروع إلى تقسيم الضفة الغربية وعزل القدس عن محيطها الفلسطيني، بما يحوّله إلى أداة مركزية لترسيخ مشروع "القدس الكبرى".
تتناول هذه الورقة التحليلية، الصادرة عن برنامج الإنتاج المعرفي في مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، المراحل التاريخية التي مر بها المشروع منذ سبعينيات القرن الماضي، والمخططات الفرعية التي رافقته، إلى جانب السياسات المرافقة مثل شق الطرق الاستيطانية وتهجير التجمعات البدوية.
كما تُحلل الورقة الأبعاد الجغرافية والديموغرافية للمخطط، والانعكاسات السياسية المترتبة عليه، خصوصًا في ضوء تصريحات وزير المالية في حكومة الاحتلال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي يقود هذا المسار باعتباره جزءًا من رؤية أوسع لفرض السيادة الإسرائيلية على كامل الضفة الغربية.
وإلى جانب ذلك، تستعرض الورقة البعد الإقليمي والدولي الذي شجع حكومة الاحتلال على تسريع تنفيذه في هذا التوقيت، ارتباطًا بحرب الإبادة الجارية في غزة وموجة الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية. وبهذا، تقدم الورقة قراءة تحليلية شاملة للمشروع باعتباره حلقة مفصلية في الاستراتيجية الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية وإعادة هندسة الواقع السياسي والديموغرافي في فلسطين والمنطقة.
ما هو المشروع الاستيطاني E1؟
يُعد مشروع E1 أحد أخطر المخططات الاستيطانية التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى فرضها في منطقة شرق القدس، نظرًا لما يحمله من تداعيات سياسية وجغرافية وديموغرافية بالغة التأثير على مستقبل الضفة الغربية والقدس، ويهدف المشروع في جوهره، إلى قطع التواصل الجغرافي والديموغرافي بين شمال الضفة الغربية وجنوبها، كخطوة استباقية لمنع قيام كيان فلسطيني متصل على امتداد الضفة مرورًا بالقدس المحتلة. وتتمثل آلية ذلك في ربط المستوطنات الإسرائيلية الواقعة شرق القدس وخارج حدود بلدية الاحتلال بالمستوطنات داخل البلدية، بما يؤدي عمليًا إلى فصل رام الله عن بيت لحم من جهة، وعزل المنطقة الشرقية للقدس عن محيطها الفلسطيني من جهة أخرى.
على الصعيد الديموغرافي، يسعى المشروع إلى منع الأحياء المقدسية والقرى الفلسطينية المحيطة من التوسع الطبيعي أو التطور العمراني، عبر مصادرة مساحات واسعة من أراضيها وإحاطتها بالبناء الاستيطاني؛ ويُراد من ذلك فرض مفهوم ما يسمى بـ"القدس الكبرى"، التي يتوقع أن تصل مساحتها إلى نحو 10% من إجمالي مساحة الضفة الغربية، بحيث تُغلق المنطقة الشرقية للقدس بالكامل وتُحاصر تجمعات مثل عناتا، والطور، وحزما، وتحرمها من أي امتداد مستقبلي.
يتضمن المشروع إنشاء مستوطنات جديدة تضم ما يقارب 4,000 وحدة استيطانية، إلى جانب منطقة صناعية، وعشرة فنادق، ومقبرة كبيرة، تمتد جميعها على مساحة تُقدَّر بـ 12,443 دونمًا من الأراضي المصادَرة من قرى عناتا، الطور، حزما، العيزرية، وأبو ديس، التي تمثل الامتداد السكاني الطبيعي للفلسطينيين شرق القدس. وبهذا المعنى، لا يُعتبر مشروع E1 مجرد توسع استيطاني محدود، بل جزءًا بنيويًا من مخطط "القدس الكبرى" الذي يستهدف تغيير معالم الجغرافيا والهوية في المنطقة بشكل جذري.
المراحل التاريخية التي مر بها المشروع الاستيطاني E1
بدأت ملامح المشروع الاستيطاني في منطقة E1 بالتشكل منذ احتلال إسرائيل الكامل لمدينة القدس عقب حرب حزيران/النكسة عام 1967، حين تسارعت وتيرة التوسع الاستيطاني بهدف تهويد المدينة وطرد الفلسطينيين منها وجذب أكبر عدد من المستوطنين إليها.
وفي عام 1975، أسس رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين مستوطنة معاليه أدوميم شرق القدس، والتي سرعان ما تحولت إلى واحدة من كبرى المستوطنات الإسرائيلية وأكثرها توسعًا، ورغم خضوعها المدني للقوانين العثمانية والأردنية، فقد وضعها الاحتلال تحت السيطرة العسكرية المباشرة، لتشكل مع المستوطنات المحيطة حاجزًا يفصل بين القرى الفلسطينية والقدس من جهة، ويقطع أوصال الضفة الغربية من جهة أخرى.
في بداية تسعينيات القرن العشرين، طرح أريئيل شارون –وزير الإسكان حينها– خطة لتوسيع معاليه أدوميم عبر بناء 2500 وحدة سكنية ومرافق سياحية وصناعية، بغرض تعزيز السيطرة الإسرائيلية على القدس. غير أن حكومة رابين جمدت الخطة عام 1992 بسبب انطلاق مفاوضات أوسلو.
إلا أن عودة رابين بعد عام للإعلان عن مخطط استيطاني جديد ضم معاليه أدوميم إلى القدس تحت اسم E1"" مثّل نقطة تحول؛ إذ نص المخطط على مصادرة نحو 12,500 دونم، وإنشاء منطقة صناعية ووحدات سكنية وفنادق، بما يربط المستوطنات الواقعة شمال شرق القدس بالمدينة نفسها.
مع أواخر التسعينيات، صادق وزير الحرب إسحق موردخاي (1997) على المخطط، ثم أقرّت الحكومة الإسرائيلية عام 1999 الخارطة الهيكلية لمنطقة E1، بموجب المخطط رقم (4/420) الذي نص على مصادرة 12 ألف دونم وإعلانها "أراضي دولة" وضمها فعليًا إلى معاليه أدوميم. ورغم إعلان الاحتلال الإسرائيلي في عام 2009 تجميد المشروع تحت ضغوط دولية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة)، فإنها أعادت تفعيله أواخر عام 2012 ردًا على قرار الجمعية العامة منح فلسطين صفة "مراقب غير عضو".
تتابعت المحاولات اللاحقة: ففي 2013 طرحت حكومة الاحتلال مناقصة لتصميم المشروع لكنها جمدتها لاحقًا تحت ضغط أمريكي، بينما شهد عام 2014 تجهيزًا للبنية التحتية بصورة غير رسمية.
وفي 2016 قاد بتسلئيل سموتريتش (البيت اليهودي) ويوآف كيش (الليكود) حملة في الكنيست لإعلان "السيادة الإسرائيلية" على معاليه أدوميم، وأعقبها عام 2017 طرح مشروع "قانون القدس الكبرى" لضمها رسميًا، لكنه عُلق أيضًا بسبب التدخل الأمريكي.
مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وإعلان "صفقة القرن" عام 2020، تسارعت خطوات تنفيذ المشروع؛ إذ أعلن نتنياهو بناء 3500 وحدة استيطانية في E1 بعد تلقي ضوء أخضر من ترامب، بينما وصف نفتالي بينيت المشروع بأنه "خطوة أولى نحو ضم الضفة الغربية".
ورغم تأجيل المجلس الأعلى للتخطيط في يونيو/حزيران 2023 جلسة لاعتماد آلاف الوحدات في المنطقة، فإن التطور الأبرز جاء في 27 يوليو/تموز 2025 حين صادقت سلطات الاحتلال رسميًا على مخططات ربط مستوطنة معاليه أدوميم بشرق القدس، في خطوة اعتُبرت أخطر حلقات المشروع منذ انطلاقته.
ويتضح من تتبع المسار التاريخي لمخطط E1 أنّ المشروع لم يكن يومًا مجرّد خطة هامشية، بل ظل حاضرًا في صلب الأجندة الاستيطانية الإسرائيلية عبر مختلف الحكومات، سواء اليمينية أو التي وُصفت بالوسطية.
ومع أن ضغوطًا دولية متكررة ــ خصوصًا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ــ دفعت الاحتلال إلى تجميد المشروع في مراحل معينة، إلا أنّ هذه التجميدات لم تكن سوى إجراءات تكتيكية مؤقتة، بينما بقي الهدف الاستراتيجي ثابتًا: ربط معاليه أدوميم بالقدس، وإغلاق الامتداد الشرقي للمدينة أمام الفلسطينيين.
وبذلك، فإن المصادقة الأخيرة في يوليو/تموز 2025 لا تمثل مجرد خطوة إضافية، بل حلقة متقدمة في تنفيذ مشروع استيطاني طويل الأمد، يهدف إلى تقويض إمكانية قيام دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة.
المخططات الفرعية لمشروع E1
لم يقتصر المشروع الاستيطاني E1 على المخطط الرئيسي فقط، بل عملت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على تفريع المشروع إلى سلسلة من الخطط الجزئية التي تهدف إلى تهيئة البنية التحتية وتثبيت وقائع ميدانية تجعل من تنفيذه أمرًا متدرجًا لا رجعة فيه.
وقد شملت هذه المخططات إنشاء طرق ومرافق أمنية ومدنية، والإعلان عن آلاف الوحدات الاستيطانية، إضافة إلى مشاريع ذات طابع صناعي وخدماتي.
ومن أبرز هذه المخططات الفرعية:
- المخطط الصناعي (2002): استيلاء على نحو 1,350 دونمًا شمال غرب منطقة E1، لبناء منطقة صناعية ضخمة، صادقت عليها وزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية.
- مقر الشرطة (2005): مصادرة 180 دونمًا لإنشاء مقر لشرطة الاحتلال في المنطقة، دخل حيّز التنفيذ عام 2008، ليشكل قاعدة أمنية مركزية لدعم التوسع الاستيطاني.
- مكب النفايات: السيطرة على 500 دونم من أراضي بلدة عناتا ومخيم شعفاط وتحويلها إلى مكب نفايات يخدم المستوطنات، في خطوة تمثل أداة إضافية لتهجير السكان الفلسطينيين.
المخططات التفصيلية الثلاثة:
- الأول: بناء 2,176 وحدة استيطانية.
- الثاني: بناء 256 وحدة استيطانية، إلى جانب 2,152 غرفة فندقية.
- الثالث: إنشاء 1,250 وحدة استيطانية وحديقة توراتية.
- مخطط 3401 وحدة استيطانية: يُعتبر من أوسع المشاريع المرتبطة بـE1، إذ يستهدف إنشاء 3,401 وحدة استيطانية جديدة، بما يعزز الكتلة الاستيطانية لمستوطنة معاليه أدوميم ويربطها بشكل أكبر بالقدس الشرقية.
وقد اعتمد الاحتلال على سلسلة المخططات الفرعية وتوزيعها على مراحل زمنية متعاقبة، ضمن استراتيجية تقوم على التدرج والالتفاف على الضغوط الدولية. فبدلًا من الإعلان عن تنفيذ المشروع الشامل دفعة واحدة –وهو ما يهدد بإثارة ردود فعل دولية واسعة– اختارت حكومات الاحتلال الإسرائيلي تفكيك المشروع إلى أجزاء صغيرة تبدو متباعدة زمنيًا لكنها متكاملة في أهدافها، مما جعل من مشروع E1 مسارًا تراكميًا يترسخ على الأرض خطوة بخطوة، بحيث يصبح من الصعب التراجع عنه أو تفكيكه مع مرور الوقت.
الطرق والتهجير القسري... أدوات لإنجاح مشروع E1
لا يقتصر مشروع E1 على إقامة المستوطنات والبنى التحتية فحسب، بل يتكامل مع سياسات أخرى تستهدف السيطرة على الأرض وإقصاء الفلسطينيين منها، وفي هذا السياق يُعد شق الطرق الاستيطانية وتهجير التجمعات البدوية ركيزتين أساسيتين لإنجاح المخطط.
فقد أطلق الاحتلال على أحد هذه الطرق اسم "نسيج الحياة"، حيث أنجز جزءًا منه بمحاذاة جدار الفصل، ممتدًا من قرية عناتا شمال شرق القدس إلى قرية الزعيم شرق المدينة، مع خطط لاستكماله وصولًا إلى بلدة العيزرية. ويُراد من هذا الطريق أن يكون ممرًا رئيسيًا يخدم المستوطنين فقط، ويُحوّل طريق القدس – العيزرية إلى مسار استيطاني مغلق أمام الفلسطينيين. وبهذا، يتعمق عزل القدس الشرقية عن محيطها الطبيعي، فيما يُجبر الفلسطينيون على استخدام طرق التفافية طويلة ومكلفة، في حين يحصل المستوطنون على شبكة مواصلات متصلة وآمنة.
بالتوازي، يواصل الاحتلال سياسة التهجير القسري للتجمعات البدوية في المنطقة، باعتبارهم العائق الأبرز أمام استكمال التمدد الاستيطاني، فمنذ عامي 1948 و1967 استُهدفت التجمعات البدوية في النقب والأغوار، واليوم يطال الخطر نحو 46 تجمعًا بدويًا في محيط القدس، جرى تهجير بعضهم بالفعل بعد الحرب الأخيرة على غزة.
وتعمل حكومة الاحتلال الإسرائيلي على دفعهم نحو بدائل سكنية في مناطق مثل العيزرية وأريحا، غير أن صمود الأهالي حال دون استكمال هذه المخططات. ومع ذلك، تبقى الضغوط مستمرة عبر هدم المنازل، ومصادرة الأراضي، وحرمان السكان من الخدمات الأساسية.
ويكشف الجمع بين شق الطرق الاستيطانية وتهجير السكان البدو عن إستراتيجية متكاملة لتفريغ المنطقة الشرقية من القدس من أهلها الأصليين، وتحويلها إلى فضاء خالص للمشروع الاستيطاني؛ فبينما تُمزق الطرق أوصال الجغرافيا الفلسطينية وتكرّس عزلة القدس، يُجرد التهجير القسري البدو من أراضيهم ومجالهم الحيوي، لتصبح النتيجة النهائية إغلاق المنطقة بالكامل أمام أي إمكانية لامتداد فلسطيني مستقبلي.
تُعد هذه السياسات خرقًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تحظر على قوة الاحتلال نقل السكان قسرًا أو تدمير ممتلكاتهم إلا للضرورة العسكرية القصوى. كما يُشكل شق الطرق الاستيطانية على حساب الأراضي الفلسطينية الخاصة انتهاكًا للمادة (53) من الاتفاقية ذاتها التي تحظر مصادرة الممتلكات الخاصة.
أما تهجير التجمعات البدوية وإعادة توطينهم قسرًا في مناطق أخرى فيُصنّف كـ جريمة حرب بموجب المادة 49 من الاتفاقية نفسها، ووفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وهو ما يجعل مشروع E1 ليس مجرد قضية سياسية أو تخطيطية، بل ملفًا قانونيًا بامتياز يعكس الطابع الإجرامي للاستيطان الإسرائيلي.
جوهر المشروع وأبعاده السياسية
يمثل مشروع E1 الاستيطاني شرق القدس نقطة تحول خطيرة في مسار الصراع، إذ يذهب أبعد من كونه مجرد توسع استيطاني ليصبح أداة سياسية معلنة للقضاء على إمكانية إقامة دولة فلسطينية. فقد أكد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، لدى إعلانه عن بدء تنفيذ المشروع، أن الخطة ستؤدي إلى تقسيم الضفة الغربية وفصلها عن القدس الشرقية، بما يعني إغلاق الباب نهائيًا أمام قيام كيان فلسطيني متصل جغرافيًا وقابل للحياة.
وأوضح سموتريتش أن المشروع يتضمن بناء 3,401 وحدة استيطانية بين مستوطنة "معاليه أدوميم" والقدس، مشددًا على أن التنفيذ سيبدأ بشكل عاجل، وأن أي مسعى دولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية سيُجابَه بـ"حقائق على الأرض" من منازل وأحياء يهودية جديدة.
وأضاف وزير المالية في حكومة الاحتلال، أن المصادقة جاءت بالتنسيق الكامل مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وبدعم واضح من الإدارة الأميركية، في رسالة مزدوجة للفلسطينيين والمجتمع الدولي بأن الاستيطان يشكل الرد الإسرائيلي الحاسم على محاولات الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
كما ربط سموتريتش المشروع بالحرب الجارية في غزة، معتبرًا أن "إعادة الاستيطان في القطاع شرط للانتصار"، وأن استعادة الأسرى يجب أن تتم دفعة واحدة لا عبر صفقات جزئية، وهو ما يعكس تصورًا يقوم على الدمج بين غزة والضفة في مقاربة أمنية–استيطانية واحدة. بل أكثر من ذلك، إذ كشف الوزير عن نية الحكومة مصادرة آلاف الدونمات واستثمار مليارات الشواكل لزيادة عدد المستوطنين في الضفة إلى مليون مستوطن، معتبرًا أن هذا "البناء اليهودي المتواصل" هو الوسيلة الأنجع للقضاء على حلم الدولة الفلسطينية.
ولا يمكن النظر إلى مشروع E1 بمعزل عن الرؤية الأوسع للحكومة الإسرائيلية الحالية، القائمة على مقاربة "الحسم" وفرض "السيادة" على كامل الضفة الغربية، فالمخطط لا يقتصر على تغيير جغرافيا القدس وضواحيها، بل يندرج ضمن مشروع استعماري أشمل يستهدف إغلاق الباب أمام أي حل سياسي قائم على دولتين، وترسيخ واقع يفرض على الفلسطينيين العيش في جزر سكانية معزولة، مقابل سيطرة استيطانية متصلة ومهيمنة.
بذلك يصبح مشروع E1 ليس مجرد خطوة محلية في شرق القدس، بل حلقة مركزية في عملية إعادة هندسة الضفة الغربية والقدس بما يخدم مشروع "يهودا والسامرة" الاستيطاني طويل الأمد.
تفاصيل المخططات المصادَق عليها
كشفت محافظة القدس عن تفاصيل دقيقة للمخططات التي صادقت عليها سلطات الاحتلال ضمن مشروع E1، والتي تعكس حجم التوسع الاستيطاني المنظم والمتدرج لربط مستوطنة "معاليه أدوميم" بالقدس الشرقية وتحويل المنطقة إلى كتلة استيطانية كبرى. وتوزعت هذه المخططات على ثلاثة مشاريع رئيسية:
- المخطط 420/1/7/59/1: يقضي بإقامة 1,120 وحدة استيطانية، إلى جانب مؤسسات عامة وتجارية، على مساحة تبلغ 1,330.5 دونم.
- المخطط 420/1/7/59/2: يشمل بناء 944 وحدة استيطانية، ومؤسسات عامة وتجارية، على مساحة قدرها 680.241 دونم.
- المخطط 420/1/7/59/3: يتيح إنشاء 1,108 وحدات استيطانية، إضافة إلى مؤسسات عامة وتجارية وصناعية، على مساحة 476.652 دونم.
بذلك، يصل مجموع الوحدات الاستيطانية التي تتضمنها هذه المخططات إلى نحو 3,172 وحدة، إضافة إلى شبكات خدمية وتجارية وصناعية من شأنها تكريس المشروع كبنية متكاملة لا تُعالج فقط قضية السكن، بل تُحوّل المنطقة إلى فضاء عمراني–اقتصادي يخدم المستوطنين حصراً.
وتدل هذه المخططات على أن الهدف لا يقتصر على زيادة أعداد الوحدات الاستيطانية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة هندسة المجال الجغرافي–الديموغرافي في المنطقة الشرقية للقدس. فإقامة مؤسسات عامة وتجارية وصناعية يجعل من المستوطنات الجديدة امتدادًا طبيعيًا للقدس المحتلة، ويُرسّخ مشروع "القدس الكبرى".
كما أن هذا التوسع يمنح الاحتلال أدوات إضافية لعزل القرى الفلسطينية المحيطة، مثل العيزرية وأبوديس وعناتا والزعيم، ومنعها من أي توسع حضري مستقبلي. وفي المحصلة، تصبح هذه المخططات بمثابة الحلقات التنفيذية التي تُحوّل إعلان سموتريتش السياسي إلى واقع ميداني متدرج.
الأبعاد الجغرافية والديموغرافية للمشروع
ينطوي مشروع E1 على تداعيات جغرافية وديموغرافية عميقة تتجاوز نطاق البناء الاستيطاني المباشر، فالمخطط يستهدف بناء 3,401 وحدة استيطانية جديدة في الممر الاستراتيجي الفاصل بين القدس الشرقية ومستوطنة "معاليه أدوميم"، بما يحول المنطقتين إلى كتلة عمرانية واحدة تحت السيطرة الإسرائيلية، ويفرض واقعًا استيطانيًا يقطع أوصال الضفة الغربية.
على الصعيد الجغرافي، يؤدي المشروع إلى:
- فصل شمال الضفة عن جنوبها، إذ يقطع محور التواصل بين رام الله وبيت لحم والخليل عبر القدس.
- شلّ إمكان تطوير محور حضري فلسطيني متصل يربط رام الله والقدس وبيت لحم، وهو المحور الذي يمثل العمود الفقري لأي دولة فلسطينية مستقبلية.
- عزل القدس الشرقية جغرافيًا عن محيطها الفلسطيني الشرقي، وربطها بمستوطنة "معاليه أدوميم" والمناطق الصناعية المحيطة بها.
أما على المستوى الديموغرافي، فإن المخطط يشكل حلقة مركزية في مشروع تهويد القدس والضفة الغربية. فبحسب التقديرات، تسعى إسرائيل عبر مشاريع التوسع الاستيطاني، وفي مقدمتها E1، إلى رفع عدد المستوطنين في الضفة إلى مليون مستوطن، وهو ما يكرّس انقلابًا في موازين السكان.
وفي القدس تحديدًا، يتوقع أن تتراجع نسبة الفلسطينيين من نحو 38% من إجمالي سكان المدينة إلى ما يقارب 12% فقط، مقابل 88% من المستوطنين، ما يعني تحويل الفلسطينيين إلى أقلية مهمشة داخل مدينتهم التاريخية.
إن الأثر المزدوج للمخطط –الجغرافي والديموغرافي– يجعل من مشروع E1 أداة مركزية لتصفية فكرة الدولة الفلسطينية، فالعزل الجغرافي يجهض إمكانية قيام كيان فلسطيني متصل، فيما يقلب التحول الديموغرافي موازين السيطرة السكانية لصالح الاحتلال.
وبذلك، يتحول المشروع إلى أداة استراتيجية لإعادة هندسة الضفة الغربية والقدس بما يتسق مع رؤية إسرائيلية قائمة على "الحسم" و"السيادة الكاملة"، ويمنع أي فرصة مستقبلية لتسوية سياسية حقيقية.
التوقيت والبعد الإقليمي والدولي
لم يأتِ الإعلان عن تنفيذ مشروع E1 في تموز/يوليو 2025 صدفة، بل جاء في توقيت مدروس يعكس تداخل العوامل الإسرائيلية والإقليمية والدولية. فمن جهة، ارتبط التوقيت بموجة الاعترافات الأوروبية المتصاعدة بدولة فلسطين، حيث سعت حكومة الاحتلال إلى الرد على هذه الخطوات بخطوات استيطانية ملموسة على الأرض، تؤكد رفضها المطلق لأي مسار يقود إلى إقامة دولة فلسطينية، وتصريحات سموتريتش بأن "من يسعى للاعتراف بدولة فلسطينية سيتلقى ردّنا على الأرض" تجسد بوضوح هذه المقاربة.
إقليميًا، استفادت إسرائيل من حالة "العجز والركود السياسي السلبي" في النظام الرسمي العربي الذي يستند إلى التصريحات المنددة دون أي إجراءات فعلية، وهو ما منح الحكومة الإسرائيلية هامشًا أوسع لتسريع مشاريع التهويد بعيدًا عن أي ضغط عربي فعّال.
أما دوليًا، فقد تزامن المشروع مع حالة تماهٍ غير مسبوقة بين اليمين التوراتي الصهيوني داخل إسرائيل واليمين الأنجليكاني المسياحي في الولايات المتحدة، في تلاقي أيديولوجي وسياسي عزز القناعة لدى قادة الاحتلال الإسرائيلي بأن الدعم الأميركي، المباشر أو الضمني، سيحول دون أي ردع فعلي من المجتمع الدولي، وتجلى ذلك بوضوح في تصريحات سموتريتش حول التنسيق الكامل مع نتنياهو وبدعم الإدارة الأميركية.
ويضاف إلى ذلك، أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو كان قد عرض خلال دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة (78 و79) خرائط لما يسميه "الشرق الأوسط الجديد" تعكس جوهر ما يُسمى بـ"إسرائيل الكبرى"، تشمل فلسطين التاريخية وأجزاء من الأردن ولبنان وسوريا والعراق وصولًا إلى مصر والسعودية.
كما نشرت وزارة الخارجية الإسرائيلية هذه الخرائط على موقعها الرسمي بالعربية، ما يعكس أن مشروع E1 ليس إجراءً سياسيًا معزولًا، بل جزء من رؤية توسعية أوسع تسعى إلى إعادة صياغة الجغرافيا السياسية في المنطقة على أسس توراتية.
إن توقيت المشروع يكشف عن تلاقي ثلاث دوائر: دائرة داخلية إسرائيلية تسعى إلى فرض وقائع على الأرض قبل أي مسار سياسي دولي، ودائرة إقليمية تستفيد من ضعف النظام العربي وانشغاله بأزماته، ودائرة دولية تكرّس التحالف مع التيارات المسيحانية الأميركية. وبذلك يصبح مشروع E1 ليس مجرد حلقة في سياسة الاستيطان، بل أداة لإعادة تعريف المشهد الإقليمي، تعكس شعورًا إسرائيليًا بالقدرة على تجاوز المعارضة الدولية وفرض "إسرائيل الكبرى" كتصور استراتيجي طويل الأمد.
الخاتمة
يكشف مشروع E1 الاستيطاني شرق القدس عن جوهر السياسات الإسرائيلية الراهنة التي تسعى إلى إغلاق الباب نهائيًا أمام أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، فمن خلال بناء آلاف الوحدات الاستيطانية وربط مستوطنة "معاليه أدوميم" بالقدس الشرقية، لا يقتصر المخطط على إعادة تشكيل الجغرافيا فحسب، بل يمتد إلى قلب الموازين الديموغرافية لصالح المستوطنين، وتحويل الفلسطينيين إلى أقلية محاصرة داخل معازل مقطعة الأوصال.
وتعكس تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بوضوح البعد الأيديولوجي لهذا المشروع، الذي لا ينفصل عن رؤية أوسع قوامها فرض السيادة الإسرائيلية على كامل الضفة الغربية وربطها بمشروع "إسرائيل الكبرى".
وعلى الرغم من الاعتراضات الدولية المتكررة والتحذيرات الحقوقية من خطورة المشروع على القرى الفلسطينية والتجمعات البدوية، فإن السياسات الإسرائيلية أثبتت قدرتها على تفكيك الضغوط الدولية عبر نهج التدرج والتفريع الزمني، ما جعل المشروع يتقدم خطوة بخطوة حتى الوصول إلى المصادقة النهائية في يوليو/تموز 2025.
إن خطورة مشروع E1 تكمن في كونه تجسيدًا لسياسة شاملة تستهدف القضاء على الحضور الفلسطيني في القدس والضفة، وإحلال وقائع استيطانية جديدة محل أي إمكانية لحل سياسي عادل. وبذلك، فإنه يشكل تحديًا استراتيجيًا للشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي على حد سواء، ويتطلب استجابة موحدة تجمع بين المقاومة الشعبية والدبلوماسية الدولية والضغط القانوني لوقف هذا المخطط الذي يمثل عنوانًا صريحًا لمشروع التهجير والتطهير العرقي.