الرئيسية| قراءة في الحدث| تفاصيل الخبر

تصعيد معادلات "المعركة ما بين الحروب"

قراءة في الحدث استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق: الدلالات واستحقاق الرد

03:24 ص،04 ابريل 2024

برنامج الانتاج المعرفي

شنَّ سلاح جو الاحتلال الإسرائيلي، في الأول من نيسان/أبريل الجاري، هجومًا على مبنى السفارة الإيرانية ومقر السفير في حي المزة غربي مدينة دمشق بستة صواريخ، ووفقًا لإعلان الحرس الثوري الإيراني فإن الهجوم أودى بحياة جنرالين، قائد الحرس في سوريا ولبنان "محمد رضا زاهدي"، ونائبه "محمد هادي حاجي رحيمي"، إلى جانب خمسة ضباط آخرين مرافقين لهما.

شكَّلت عمليةُ الاغتيال والهجوم على القنصلية الإيرانية فصلًا جديدًا من فصول التصعيد والتجاوز الواسع لقواعد الاشتباك التي حدَّدت إطار المواجهة غير المباشرة بين إيران والاحتلال الإسرائيلي، إذ دشَّن تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 فصلًا جديدًا في شكل وطبيعة المواجهة وحجمها، خصوصًا مع دخول الجبهات الإسنادية للمقاومة في قطاع غزة مرحلةَ الاشتباك المباشر عبر الجبهات المتعددة والاتهامات الإسرائيلية لإيران بتمويل وتجهيز الهجمات التي تشنها قوى "محور المقاومة" في المنطقة.

تستعرض ورقة القراءة في الحدث، من إعداد برنامج الإنتاج المعرفي في مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، سياقاتِ وأبعادَ عملية الاغتيال، وتأثيراتِها المحتملة على قواعد الاشتباك، واحتمالات توسُّع الحرب في قطاع غزة إلى حرب إقليمية.

من العميد "محمد رضا زاهدي"؟

التحق "زاهدي" بالحرس الثوري الإيراني بعد عامين من انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، وكان من قادته من الصف الثاني في خلال الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي، فكان قائدًا للواء "44 قمر بني هاشم" لثلاث سنوات، ثم قائدًا لفريق "14 الإمام الحسين"، وقبل التوجه إلى لبنان تولى منصب نائب قائد عمليات الحرس الثوري لثلاث سنوات، وكان قائدًا للوحدة البرية في الحرس الثوري حتى تموز/يوليو 2008.

وهو سادس قيادات الوحدة الصاروخية في الحرس الثوري، إذ شغل المنصب لبضعة أشهر، بعد مقتل القيادي في الحرس الثوري "أحمد كاظمي"، في سقوط طائرة عسكرية شمالي غربي إيران. وترك "زاهدي" المنصب لـ"حسين سلامي"، القائد العام الحالي لقوات الحرس الثوري.

وقبل أن يعود لقيادة قوات الحرس الثوري في لبنان وسوريا، كان قائدًا لوحدة "ثار الله" المكلَّفة بحماية طهران في الأوقات المتأزمة.

وتُدرِج الولايات المتحدة "زاهدي" على قائمة العقوبات منذ آب/أغسطس 2010، ضمن حزمة عقوبات طالت قيادة "فيلق القدس"، لدورهم في رعاية المقاومة وتمويل "حزب الله".

لعب "زاهدي" دورًا رئيسيًّا في توسيع أنشطة "فيلق القدس"، الذراع الخارجية للحرس الثوري في لبنان، خصوصًا دعم "حزب الله" اللبناني وشحن الأسلحة، وكان همزة الوصل بين الحزب وأجهزة المخابرات السورية، ما أكده بيان الحزب التأبيني الذي جاء فيه: "إنَّ القائد الكبير الشهيد الغالي محمد رضا زاهدي كان من الداعمين الأوائل والمضحين والمثابرين ‏لسنوات طويلة من أجل تطوير وتقدُّم عمل المقاومة في لبنان، وقد شاركنا مدَّة كبيرة الهموم ‏والمسؤوليات".

وحول علاقة العميد "زاهدي" بالمقاومة الفلسطينية، كشفت "كتائب القسام"، في نعيه، أن للشهيد دورًا بارزًا في ملحمة "طوفان الأقصى"، وأن له دورًا أيضًا في بناء جبهة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي على مدار سنوات طويلة.

تصاعُد الاغتيالات منذ "طوفان الأقصى"

ارتفعت وتيرة الاغتيالات لقادة الحرس الثوري الإيراني منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حينما بدأ "طوفان الأقصى"، إذ استهدفت "إسرائيل" قادة ومستشارين عسكريين إيرانيين في سوريا أربع مرات، ما أدى إلى استشهاد أحد عشر قائدًا ومستشارًا عسكريًّا إيرانيًّا على الأقل.

كان العميد "زاهدي" القياديَّ الأكبر من حيث الأهمية في هرم قادة الحرس الثوري الإيراني الذين تعرضوا للاستهداف في خلال الشهور الستة الماضية، وتلاه من حيث الأهمية كلٌّ من:

العميد "رضا موسوي" الذي استشهد إثر ضربة صاروخية إسرائيلية على منطقة السيدة زينب في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وكان يشغل موقع مسؤول الإمدادات لقوات الحرس الثوري في سوريا. وذكر بيان الحرس الثوري أن "موسوي" مسؤول الإمدادات (إرسال الأسلحة) في جبهة المقاومة في سوريا، وأحد رفاق المسؤول السابق للعمليات الخارجية في الحرس الثوري الفريق "قاسم سليماني"، الذي استٌشهِد في ضربة جوية أمريكية في بغداد في مطلع العام 2020.

"حجت الله أميدوار" الذي استشهد في كانون الثاني/يناير الماضي إثر غارة جوية على مبنى في حي المزة غربي دمشق، وكان يشغل موقع مسؤول استخبارات الحرس الثوري و"فيلق القدس" في سوريا، وكان يتولى مسؤولية التنسيق الأمني مع العشائر العربية في شمالي شرقي سوريا، ويشرف على العمليات هناك، بما في ذلك اتهامه بالمسؤولية عن الهجمات على قواعد أمريكية على الأراضي السورية.

توقيت عملية استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق

حمل توقيت عملية الاستهداف دلالاتٍ متعددة، مع الأخذ في الحسبان مدى أهمية وحساسية الهدف وحجم التصعيد المنطوي عليه، إذ سبق عمليةَ الاستهدافِ نجاحُ طائرة مُسيَّرة انتحارية في الوصول إلى هدف عسكري حساس في "إيلات" جنوبي فلسطين المحتلة، إذ نقلت وسائل إعلام عبرية أن المسيَّرة أصابت القاعدة العسكرية البحرية في "إيلات" واندلع حريق بعد دوي صفارات الإنذار في المدينة، وقد تبنَّت "المقاومة الإسلامية في العراق" العملية، وذكرت أنها قصفت "هدفًا حيويًّا في الأراضي المحتلة بالأسلحة المناسبة"، وذلك فجر الأول من نيسان/أبريل، فيما أشار المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، "دانيال هاغاري"، إن المسيَّرة التي أصابت القاعدة البحرية هناك كانت بتوجيه إيراني، ووصف الحادث بـ"الخطير للغاية".

من جانب آخر، جرت عملية الاستهداف قبيل بداية الأسبوع الأخير من رمضان، الأسبوع الذي تحيي فيه الجمهورية الإسلامية في إيران فعالياتِ يوم القدس العالمي، وسط تقديرات بارتفاع معدلات المواجهة والاشتباك عبر الجبهات المتعددة الناشطة ضمن محور المقاومة في خلال الأسبوع المذكور، في إطار إسناد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.

على مستوى آخر، تأتي عملية الاستهداف في الوقت الذي تجري فيه مفاوضات مكوكية من أجل الوصول إلى اتفاق يوقف حرب الإبادة ضد قطاع غزة، وسط ضغوط دولية غير مسبوقة منذ بداية الحرب لوقف إطلاق النار، شهدت للمرة الأولى قرارًا لمجلس الأمن يطالب بوقف لإطلاق النار في خلال شهر رمضان وإطلاق سراح المختطفين دون أن يكون ثمة "فيتو" أمريكي، ما يُعَدُّ رفعًا لمستوى الضغط الأمريكي على الاحتلال الإسرائيلي، وسط تصاعُد الخلاف بين الطرفين على طريقة إدارة الحرب وأهداف إطالتها الحالية، ما يدفع إلى تقليص حجم الغطاء والتفويض الأمريكي للعدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع.

دلالات تَحملها عملية الاستهداف:

  • رفع مستوى المواجهة مع إيران وتصعيد الاستهداف المباشر، ردًّا على تصاعُد فعالية ونوعية ضربات جبهات الإسناد.
  • يتجاوز استهدافُ القنصليةِ ما عهدته استراتيجية "المعركة بين الحروب"، إذ إنه بمثابة الاستهداف الواضح والمباشر لأرض إيرانية، ما يعني استعداد الاحتلال لتجاوز العديد من الخطوط الحمراء في إطار المعركة الحالية.
  • تثبيت قواعد اشتباك جديدة مفادها أن نجاح كل ضربة من ضربات قوى وفصائل محور المقاومة ستواجَه باستهداف مباشر لقيادات ومستشارين إيرانيين.
  • خلق حالة ردع، استباقًا لإمكانية تدشين مرحلة جديدة في شكل ونوعية المساهمة المُقدَّمة من جبهات المقاومة المتعددة في خلال المرحلة القادمة، خاصةً بعد تصريح أكثر مصدر حول إعداد جبهات الإسناد لمرحلة جديدة في حال اجتياح الاحتلال مدينةً رفح.
  • رسالة ضمنية للولايات المتحدة بأهمية استمرار الدعم المقدَّم لدولة الاحتلال لتمكينها من "الدفاع عن نفسها"، وأهمية استمرار التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، في إطار استمرار احتمالية نشوب حرب إقليمية.

استنتاجات حول الاستهداف:

  • يحاول الاحتلال تثبيت معادلات جديدة في قواعد الاشتباك مع إيران، وتوسيع بنك الأهداف المستباح في خلال الحرب الحالية.
  • يسعى الاحتلال إلى رفع كلفة الضربات التي توجِّهها فصائل وقوى محور المقاومة في إطار الإسناد المتواصل للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
  • يعمد الاحتلال إلى استباق احتمالات التصعيد، والانتقال إلى مراحل تصعيد جديدة سبق وأن هدَّدت قوى المقاومة بالانتقال إليها في خلال المرحلة القادمة، برفع مستوى المواجهة والثمن الذي يُجبَى من إيران مباشرة.
  • يبحث الاحتلال عن استدامة التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، وتثبيت فكرة الحاجة المُلحَّة لتواجد الحماية الأمريكية وتعزيزات الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط، لاستمرار ردع خصومه، وبدرجة أساسية إيران.

احتمالات الرد الإيراني:

اتبعت إيران سياسة "الصبر الاستراتيجي" في التعامل مع ضربات الاحتلال، خاصةً في التصدي لضربات "المعركة ما بين الحروب" طوال مدة القتال غير المباشر مع الاحتلال، والسعي المستمر إلى تعزيز المشروع الكبير بدعم الأطراف الحليفة في المنطقة ضمن "محور المقاومة" وتعزيز قوتها لمحاصرة الأراضي الفلسطينية المحتلة بطوق من النيران والأذرع المسلحة وفق استراتيجية طويلة الأمد، إلا أن توسُّع الضربات وحجمها ونوعية أهدافها ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي حَملَ خروجًا عن القواعد المعتادة، التي انحصرت سابقًا في استهداف قوافل السلاح، أو بعض المستشارين المنخرطين في معادلات الاشتباك بالمعنى المباشر.

يُعَدُّ استهداف القنصلية الإيرانية تصعيدًا إسرائيليًّا غير مسبوق، من حيث رتبة ومواقع الشهداء المستهدَفين، ومن حيث القيمة الاعتبارية للمكان المستهدف (القنصلية)، ما يضع إيران أمام خيارات صعبة لا يمكن فيها الركون إلى الصبر الاستراتيجي وتفويت الردود المباشرة لصالح الاستثمار في المشروع الأكبر، أو توجيه الردود عبر قوى محلية حليفة في العراق أو سوريا، أو حتى لبنان، إذ إن الصبر الاستراتيجي على تصاعُد الاغتيالات منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر أوصَلَ التجاوزَ الإسرائيليَّ إلى مرحلة الاستهداف المباشر لمبنى تابع للقنصلية الإيرانية واغتيال العميد "زاهدي".

على الرغم من أن استحقاق الرد الإيراني محتوم، ستعمل الجمهورية الإسلامية على وزن ردها بميزان من ذهب، بحيث يَرفع من كلفة الهجمات المماثلة ويَعكس معادلة الردع بردع مقابل، دون أن يجذب هذا الردُّ احتمالاتِ توسُّع الاشتباك وتدحرجه إلى مواجهة واسعة قد تَحمل المنطقةَ بأكملها لانفجار لا يريده أي من الأطراف.

خلاصة

على الرغم من أن الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال العميد "زاهدي" جاء بعد ساعات من نجاح مُسيَّرة "إيرانية الصنع والتوجيه"، وفقًا لاتهامات الاحتلال، بالوصول إلى منشأة عسكرية في "إيلات"، فقد يكون ذلك محفِّزًا لتسريع تنفيذ العملية التي لا تَحمل بُعدًا تكتيكيًّا في جوهرها، بل تتعدى ذلك إلى كونها رفعًا لمستوى المواجهة مع إيران في إطار الحرب المستمرة منذ نحو ستة شهور، والتي يسعى الاحتلال فيها إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية، فيما يُمثِّل استمرارُ جبهات الإسناد المنطوية تحت لواء محور المقاومة بقيادة إيران تحديًا استراتيجيًّا وعاملًا ضاغطًا يهدف إلى لجم العدوان وفتح معادلات استنزاف متعددة تُشتِّتُ قوى الاحتلال.

يسعى الاحتلال إلى تثبيت معادلات جبي الثمن المباشر من إيران، ردًّا على رفع قوى المقاومة نوعيةَ ضرباتها المساندة للمقاومة في قطاع غزة، ومحاولة تكوين معادلة ردع جديدة تتجاوز ما كان عليه الأمر سابقًا من خلال استراتيجية "المعركة ما بين الحروب"، ما يضع إيران أمام اختبار محوري يَضطرُّها إلى الموازنة ما بين الحاجة الإسرائيلية لرد إيراني يطيل أمد الحضور الأمريكي في المنطقة ويعيد شبح الحرب الإقليمية إلى الواجهة، والحاجة لرد التجاوز الإسرائيلي الكبير ومنع تمرير المعادلات التي تسعى "إسرائيل" إلى تثبيتها وخلق معادلات ردع مقابلة.

ستعمل إيران على تصميم رد واضح وصريح على الاعتداء الإسرائيلي، وتثبيت قواعد اشتباك جديدة تتوافق مع السقف الذي رفعه الاحتلال، دون أن يَفتح هذا الردُّ الأفقَ واسعًا أمام احتمالات تدحرُج الأمر إلى حرب إقليمية، أو انفجار في المنطقة التي تغلي منذ أكثر من ستة شهور في ظل حرب الإبادة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.