منذ بدء حرب الإبادة ضد قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، رفعت حكومة الاحتلال وتيرة حملتها التي تستهدف وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، زاعمةً انتماء بعض موظفي الوكالة لحركتَي حماس والجهاد الإسلامي، واستخدام بعض مقدرات الوكالة في أحداث عملية من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي.
ليست هذه الاتهامات الأولى من نوعها، فمع اندلاع الانتفاضة الأولى في العام 1987 زعم الاحتلال أن بعض موظفي الوكالة أعضاء في تنظيمات فلسطينية مقاومة، ومع اندلاع الانتفاضة الثانية ادعت سلطات الاحتلال أن موظفين من الوكالة يستخدمون مركباتها لنقل المقاتلين والأسلحة كونها تتمتع بالحصانة الدبلوماسية.
إلَّا أن تاريخ الاستهدافات الإسرائيلية للوكالة يرجع إلى ما قبل الانتفاضتين، بل إلى وقت التأسيس، إذ يسعى الاحتلال إلى التنصل من تطبيق القرار 194 واعتماد تعريف اللاجئين الفلسطينيين ضمن ميثاق العام 1951.
وفي قرار خطير وغير مسبوق، أقر كنيست الاحتلال بالقراءتين الثانية والثالثة حظر انشطة وكالة "أونروا"، ما يعني إلغاء الاتفاقية الموقَّعة مع الوكالة بعد العام 1967 بالسماح لها بالعمل في القدس.
القرار
وافق كنيست الاحتلال على مشروع قانون يحظر على وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" العمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تخضع لسيطرة الاحتلال.
وأقر المشروع بأغلبية 92 صوتًا مقابل 10 أصوات معارضة، بعد سنوات من الانتقادات الإسرائيلية الحادة لوكالة "أونروا"، والتي زادت منذ بدء حرب الإبادة ضد قطاع غزة في أعقاب "طوفان الأقصى".
ووافق أعضاء الكنيست على تشريعين: الأول يمنع "أونروا" من ممارسة "أي نشاط" أو تقديم أية خدمة داخل الأراضي التي تسيطر عليها دولة الاحتلال، بينما يقطع الثاني العلاقات الدبلوماسية مع الوكالة الأممية.
وتضمنت مشاريع القوانين:
- إلغاء تبادل "رسائل كوماي" للعام 1967 بين "أونروا" و"إسرائيل"، التي توافق الأخيرة بموجبها على تسهيل مهام الوكالة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك حماية وأمن موظفيها ومنشآتها، وحرية حركة مركباتها وموظفيها عبر "إسرائيل" وإلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، والإعفاءات الضريبية.
- إلغاء الامتيازات والحصانات الممنوحة لـ"أونروا" (موظفين، ومقرات ومنشآت).
- قطع أي اتصال بـ"أونروا" أو نيابة عنها.
- منع "أونروا" من تشغيل أي تمثيل أو خدمات أو أنشطة في "الأراضي السيادية" لـ"إسرائيل".
- اتخاذ إجراءات عقابية ضد موظفي "أونروا"، بما في ذلك ما يتعلق بأحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أو أية إجراءات عقابية أخرى بموجب قانون مكافحة الإرهاب الإسرائيلي للعام 2016.
وبعد التصويت النهائي على مشاريع القوانين ستتعرض "أونروا" لإجراءات عملية تنفيذية على الأرض من حكومة الاحتلال الإسرائيلي، أبرزها:
- منع الوكالة من العمل في "إسرائيل" ومدينة القدس المحتلة، والإيعاز إلى شرطة الاحتلال بالعمل على تنفيذ الحظر عبر إغلاق مكاتب الوكالة ومدارسها في القدس وأحيائها.
- وضع قرار إخلاء "أونروا" من الأراضي التابعة لسلطة أراضي "إسرائيل"، وإلغاء عقود التأجير في الشيخ جراح وكفر عقب ومخيم شعفاط للاجئين الوحيد في القدس، ما ستترتب عليه تداعيات خطيرة تطال 110 آلاف لاجئ فلسطيني في المدينة المحتلة، ومدارس وعيادات ومراكز الإغاثة التابعة للوكالة.
- سيدخل قرار وزير مالية الاحتلال، "بتسلئيل سموتريتش"، حيز التنفيذ بإلغاء المزايا الضريبية التي تحصل عليها "أونروا"، وقطع الاتصال مع البنوك الإسرائيلية، ما سيضع "أونروا" في وضع مالي حرج، إذ ستجد صعوبة في تحويل أموال المانحين وصرف رواتب موظفيها مستقبلًا.
- ستعطي القوانين الضوءَ الأخضر لجيش الاحتلال في الضفة والقدس، كما هو معمول في قطاع غزة، لاستهداف منشآت "أونروا" في خلال عمليات الاجتياح للمخيمات الفلسطينية، وإطلاق العنان لقطعان المستعمرين للاعتداء على منشآت الوكالة وموظفيها، كون القرار يرفع الحصانة الدبلوماسية عنهم.
موقف وكالة "أونروا"
حذَّر المفوَّض العام لوكالة "أونروا"، فيليب لازاريني، من أن إقرار كنيست الاحتلال قانونًا يحظر أنشطة الوكالة في "إسرائيل" والقدس الشرقية المحتلة، يشكِّل "سابقة خطيرة"، مشيرًا إلى أن ذلك "يعارض ميثاق الأمم المتحدة، وينتهك التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي".
وندد لازاريني في منشور على منصة "إكس" بفصل جديد من فصول ما وصفها بـ"حملة للنيل من مصداقية" الوكالة الأممية التي تعد الجهة الفاعلة الرئيسية في العمليات الإنسانية في قطاع غزة، وبأحدث خطوة في الحملة المستمرة لتشويه سمعة "أونروا" ونزع الشرعية عن دورها في تقديم خدمات المساعدة والتنمية البشرية للاجئي فلسطين.
وشدد المفوَّض العام على أن هذه القوانين "لا تقل عن كونها عقابًا جماعيًّا"، و"لن تؤدي إلا إلى تعميق معاناة الفلسطينيين، خاصةً في غزة، حيث يعاني الناس منذ أكثر من عام في جحيم لا يوصف"، و"ستمنع أكثر من 650 ألف طفل وطفلة من حقهم في التعليم، ما يعرِّض جيلًا كاملًا من الأطفال للخطر".
وقالت المتحدثة باسم "أونروا"، جولييت توما: "إنه لأمر مشين أن تعمل دولة عضو في الأمم المتحدة على تفكيك وكالة تابعة للأمم المتحدة هي أيضًا أكبر مستجيب في العملية الإنسانية في غزة"، مضيفة أن "القرار إن نُفِّذ سيشكِّل كارثة بما يشمل التأثير المحتمل على العملية الإنسانية في غزة وفي عدة أجزاء من الضفة الغربية"، مضيفة أن الوكالة المزود الرئيسي "للمأوى والغذاء والرعاية الصحية الأولية" في غزة.
كما قال المستشار الإعلامي لوكالة "أونروا"، عدنان أبو حسنة، إن قرار كنيست الاحتلال حظر الوكالة عن العمل يعني انهيار عملية الإغاثة الإنسانية برمَّتها، واصفًا القرار بالتصعيد غير المسبوق.
المواقف الفلسطينية
قالت الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، إن القرار يهدف إلى "تصفية قضية اللاجئين وحقهم في العودة والتعويض، وهذا لن نسمح به"، عادًّا قضية اللاجئين "جوهر القضية الفلسطينية، وتمثل خطوطًا حمراء لأي حل"، مضيفًا أن هذا التصويت "يدل على تحوُّل إسرائيل إلى دولة فاشية"، وأن ذلك "لم يعد مقتصرًا على عدد من الوزراء، وإنما ما يسمى دولة إسرائيل"، داعيًا دول العالم إلى "التعامل مع إسرائيل كدولة عنصرية، وأن يتم إخراجها من الشرعية الدولية".
وأما "حماس" فأبدت رفضها لقرار الكنيست، مُشدِّدةً على أنه جزء من حرب الاحتلال على الشعب الفلسطيني، و"يهدف إلى تصفية قضيته وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم"، مطالبةً المجتمع الدولي والأمم المتحدة باتخاذ "مواقف حازمة" ضد كيان الاحتلال الذي "يتحدى الإرادة الدولية والهيئات الأممية"، داعيةً إلى تقديم الدعم إلى الوكالة على نحو يضمن استمرار عملها، خصوصًا في ظل الإبادة الإسرائيلية المستمرة في غزة.
وأما الجهاد الإسلامي فوصفت القرار بأنه "إمعان في حرب الإبادة والسياسات الإجرامية" التي ينتهجها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، مؤكدةً أنه "إهانة علنية للأمم المتحدة ومؤسساتها وقرارتها ولما يسمى الشرعية الدولية، ويتنافى مع كل القرارات الدولية".
المواقف الدولية
شدد الأمين العام للأمم المتحدة، "أنطونيو غوتيريش"، على أنه ستكون لحظر نشاط "أونروا" "عواقب مدمرة" على حياة اللاجئين الفلسطينيين، مؤكدًا أهمية دور الوكالة في تقديم الدعم الضروري لهذه الفئة. وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن مشروع القانون يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة والتزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي. وأعرب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، "تيدروس غيبريسوس"، عن مخاوفه من أن يؤدي هذا القرار إلى "عواقب مدمرة" على اللاجئين الفلسطينيين، محذرًا من تداعياته الإنسانية.
وأما الولايات المتحدة فعبَّرت عن قلقها بشأن مشروع قانون حظر "أونروا"، إذ قال المتحدث باسم خارجيتها، ماثيو ميلر: "أوضحنا لحكومة إسرائيل أننا نشعر بقلق عميق إزاء هذا التشريع المقترح"، مؤكدًا الدور "الحاسم" الذي تضطلع به الوكالة في توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة.
وأما مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، فقال إن التشريع "يتناقض تناقضًا صارخًا مع القانون الدولي والمبدأ الأساسي للإنسانية"، مؤكدًا أن "جميع وكالات الأمم المتحدة تجسد النظام الدولي القائم على القواعد"، وأنه "يتعين على جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الالتزام بها".
وانتقدت ألمانيا قرار حظر "أونروا"، وقالت مفوضة الحكومة الألمانية لسياسة حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية، لويز أمتسبرغ، في بيان صحفي، إنه إن طبقت الحكومة الإسرائيلية القرار فسيعني ذلك جعل أنشطة الوكالة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية فعليًّا "غير ممكنة"، ووصفت القرار بأنه "إشارة خطيرة إلى عدم احترام الأمم المتحدة وقيم التعاون الدولي".
وأصدرت حكومات أيرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا بيانًا مشتركًا أدانت فيه "تشريعات الكنيست التي تستهدف "أونروا""، والتي تشكِّل "سابقةً خطيرةً لعمل الأمم المتحدة"، مؤكدةً أن عمل الوكالة "لا يمكن الاستغناء عنه لملايين اللاجئين."
وأما وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، فقال إن "مشاريع القوانين التي أقرها الكنيست الإسرائيلي التي تقيد عمل "أونروا" خاطئة تمامًا"، مشيرًا إلى أن المملكة المتحدة "أكدت بوضوح إلى جانب الشركاء الدوليين أن على إسرائيل أن تضمن قدرة "أونروا" على تقديم المساعدات بالسرعة والحجم اللازمين، لمعالجة حالة الطوارئ الإنسانية في غزة".
فيما أدانت الخارجية الأردنية الحظر الإسرائيلي، واصفةً القرار بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي، ولالتزامات "إسرائيل" بصفتها القوة القائمة بالاحتلال في الأرضي الفلسطينية المحتلة.
خاتمة
يهدف قرار حظر عمل وكالة "أونروا" في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تخضع لسيطرة الاحتلال إلى إسقاط حق العودة للشعب الفلسطيني. وقد جاء القرار بتغطية أمريكية، حاملًا تداعياتٍ خطيرة كونه يتجاوز قرارات المؤسسات الدولية، وفي المقدمة منها الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أنشأت هذه الوكالة لرعاية وتقديم الخدمات للاجئي الشعب الفلسطيني من مناطق 48 في القدس والضفة الغربية وغزة ومخيمات اللجوء في الأردن وسوريا ولبنان والعراق. ويُعَدُّ القرار خطوة كبيرة على طريق تصفية وكالة الغوث، ومنعها من تقديم خدماتها وتنفيذ أية أنشطة مباشرة أو غير مباشرة. ويسحب القرارُ كذلك الامتيازات الممنوحة لأعضاء الوكالة دبلوماسية واقتصادية، ويحظر التواصل بينها وبين حكومة الاحتلال بأي شكل، ويعُدُّ الوكالة منظمة غير مشروعة، ما يعني عًدَّ العاملين فيها عاملين في منظمة غير مشروعة.
ترافق هذا القرار مع قرار للجنة الخارجية والأمن في الكنيست بالاستيلاء على أرض المقرر الرئيسي للوكالة في الشيخ جراح في القدس، وإقامة بؤرة استيطانية بدل منه، و1,440 وحدة استيطانية على طريق تهويد المدينة المحتلة وإحكام السيطرة عليها، وهو لا ينفصل عن خطة وزير مالية الاحتلال والوزير في وزارة الحرب، "بتسلئيل سموتريتش"، لفرض "السيادة الإسرائيلية" على الضفة الغربية وقطاع غزة.