منذ تشكيل حكومة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو في أواخر عام 2022، صُنفت كواحد من أكثر الحكومات تطرفًا وعنصرية في تاريخ "إسرائيل"، لا سيما في تعاملها مع القضية الفلسطينية. فقد تصاعدت دعوات المسؤولين "الإسرائيليين" لضم الضفة الغربية بشكل علني، حيث برز إعلان وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، حول إلغاء جهاز الإدارة المدنية ونقل مسؤوليات الضفة الغربية إلى الوزارات الحكومية في حكومة الاحتلال.
ترافق ذلك مع تسارع وتيرة الاستيطان وتوسعة المستوطنات لتحويلها إلى مدن استيطانية كبرى محصنة أمنيًا، بالتوازي مع تكثيف سياسات هدم المنازل ومصادرة الأراضي الفلسطينية، خاصة في الأغوار والقدس. تعكس هذه الإجراءات خطوات استراتيجية تهدف إلى تعزيز السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، عبر تهجير الفلسطينيين قسرًا وتغيير الواقع الديموغرافي لصالح المشروع الاستيطاني.
تُقدّم هذه الورقة، الصادرة عن برنامج الرصد والتوثيق في مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، إحاطة معلوماتية حول مساعي وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، لإلغاء جهاز الإدارة المدنية في الضفة الغربية. تسلط الورقة الضوء على الخلفية التاريخية لهذا الجهاز، التداعيات المحتملة لإلغائه، وأبرز الردود والمواقف المحلية والدولية المرتبطة بهذه الخطوة.
خطط سموتريتش ونتنياهو: نحو ضم الضفة الغربية وتغيير الوضع القائم
أعلن وزير المالية في حكومة الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، عن خطته لإغلاق وحدة "الإدارة المدنية" في الضفة الغربية، تمهيدًا لنقل جميع صلاحياتها إلى حكومة الاحتلال ووزاراتها. تُعد هذه الخطوة جزءًا من استراتيجية لضم الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية، وهو ما أكده سموتريتش خلال مناقشاته مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، مشيرًا إلى تلقيه تجاوبًا إيجابيًا من فريق الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب.
وكشف سموتريتش عن بدء تنفيذ خطة لضم 60% من أراضي الضفة الغربية، تبدأ بفرض السيادة "الإسرائيلية" على المستوطنات اليهودية، قبل أن تمتد إلى باقي المناطق. تسعى الخطة إلى تغيير الوضع القائم، حيث يسيطر الاحتلال حاليًا على المناطق المصنفة (ج)، بينما تدير "الإدارة المدنية" شؤون المستوطنين. وأشار سموتريتش إلى أن المستوطنين يسيطرون على 10% من أراضي الضفة، بينما تخضع 50% لسيطرة الجيش، و40% للسلطة الفلسطينية، رغم الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة.
كما توعد سموتريتش بضم المستوطنات في الضفة الغربية بحلول عام 2025، معتبرًا أن عودة ترامب للرئاسة تشكل "فرصة ذهبية" لتحقيق هذا الهدف. وأكد أن فرض السيادة "الإسرائيلية" على المستوطنات يُعد الطريقة الوحيدة لضمان بقاء دولة الاحتلال، متوقعًا دعم ترامب لهذه الخطوة كما فعل خلال ولايته الأولى.
هذه التصريحات ليست جديدة، إذ دعا سموتريتش في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خلال مؤتمر في القدس المحتلة، إلى فرض السيادة "الإسرائيلية" على الضفة الغربية وقطاع غزة. كما أكد في يونيو/حزيران صحة ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" بشأن خطته لضم الضفة الغربية، والتي وُصفت بـ"السرية"، وتهدف إلى تعزيز السيطرة "الإسرائيلية" وإجهاض أي محاولات لتحويل الضفة إلى جزء من دولة فلسطينية.
من جانبه، قال رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وفقًا لهيئة البث "الإسرائيلية"، إنه مع تولي الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مهامه في البيت الأبيض، يجب إعادة قضية فرض السيادة على الضفة الغربية إلى جدول أعمال الحكومة. وبذلك، ينضم نتنياهو إلى أصوات أخرى داخل حكومته تنادي بتحقيق هذا الهدف.
الإدارة المدنية: من الاحتلال العسكري إلى الأداة الاستيطانية
الإدارة المدنية في الضفة الغربية هي جهاز إداري تابع للاحتلال الإسرائيلي، تأسس في عام 1981 ليحل محل الإدارة العسكرية التي كانت النظام السائد منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967. على الرغم من أن الهدف المعلن للإدارة المدنية هو تنظيم شؤون الفلسطينيين وتقديم الخدمات الأساسية، فإنها كانت أداة أساسية لتسهيل الاستيطان الإسرائيلي وتعزيز السيطرة على الأراضي الفلسطينية.
تاريخ تأسيس الإدارة المدنية وتحولاتها:
فترة الاحتلال العسكري (1967-1981):
بعد احتلال الضفة الغربية في عام 1967، كانت الأراضي تخضع مباشرة لإدارة جيش الاحتلال عبر "الإدارة العسكرية". خلال هذه الفترة، استخدم جيش الاحتلال قوانين الطوارئ لإدارة شؤون الفلسطينيين والمستوطنات اليهودية، مما عزز السيطرة العسكرية المباشرة على الأرض والسكان.
إنشاء الإدارة المدنية (1981):
في عام 1981، أنشأت حكومة الاحتلال "الإدارة المدنية" كبديل للإدارة العسكرية، بحجة تسهيل حياة الفلسطينيين في المناطق المحتلة. ومع ذلك، كان الهدف الأساسي هو تعزيز الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية وتكريس سيطرة الاحتلال على الموارد والأراضي الفلسطينية، مما جعل الإدارة المدنية أداة محورية في المشروع الاستيطاني الإسرائيلي.
الهيكلية والوظائف:
الهيكلية:
- تتبع الإدارة المدنية هيئة عسكرية تشرف عليها وزارة جيش الاحتلال، مع موظفين مدنيين من الوزارات الإسرائيلية المختلفة.
- يترأس كل قسم موظف مدني يُعرف بـ"كمات"، وهو ممثل عن وزارة إسرائيلية وليس ضابطًا عسكريًا.
الوظائف الأساسية:
- إصدار التصاريح: تتحمل الإدارة مسؤولية إصدار تصاريح البناء للفلسطينيين والمستوطنين، إضافة إلى تصاريح التنقل داخل الأراضي المحتلة أو إلى إسرائيل.
- التخطيط والبناء: تعمل الإدارة على تنظيم وتطوير مشاريع الاستيطان اليهودي، مع فرض قيود مشددة على البناء الفلسطيني، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات هدم المنازل بحجج أمنية.
- الضرائب والموارد: تشرف على تحصيل الضرائب من الفلسطينيين، وتدير توزيع الموارد مثل المياه بما يخدم السياسات الاستيطانية.
- التعليم والصحة: تدير بعض جوانب التعليم والصحة الفلسطينية، لكن ضمن إشراف "إسرائيلي" مباشر لضمان السيطرة.
الهدف السياسي والاستراتيجي
يتمثل الهدف السياسي والاستراتيجي للإدارة المدنية في تعزيز الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، وهو أحد الأهداف الرئيسة لهذا الجهاز. تسعى الإدارة المدنية إلى تسهيل النشاط الاستيطاني من خلال:
- تخصيص الأراضي: العمل على تخصيص مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية لصالح المستوطنات اليهودية.
- تنظيم البنية التحتية: الإشراف على تطوير البنية التحتية للمستوطنات، بما في ذلك الطرق والمرافق الخدمية التي تربطها بالمناطق الإسرائيلية الأخرى.
- دعم النشاطات الاستيطانية: تقديم الدعم اللوجستي والإداري للمستوطنين لتوسيع وجودهم في الضفة الغربية، بما يهدف إلى تكريس الأمر الواقع الديموغرافي والسياسي على الأرض.
تداعيات إلغاء الإدارة المدنية على القضية الفلسطينية
إلغاء "الإدارة المدنية" يعني نقل مسؤولية تقديم الخدمات للمستوطنين في الضفة الغربية من جيش الاحتلال إلى حكومة الاحتلال ووزاراتها المختلفة، مثل بناء البنية التحتية، شق الطرق، وتمديد شبكات الكهرباء والمياه. في المقابل، لن يكون جيش الاحتلال هو المسؤول المباشر عن إدارة شؤون من سيتبقى من السكان الفلسطينيين على هذه الأراضي، بل ستتولى الوزارات الإسرائيلية المتخصصة هذه المهام، مما يُعد خطوة نحو فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية.
التداعيات الرئيسية:
تعزيز مشروع الضم:
- يُعتبر القرار خطوة عملية نحو ضم 60% من أراضي الضفة الغربية بشكل رسمي.
- يُسهل إنشاء مستوطنات جديدة، ومنح تراخيص لبناء بؤر استيطانية إضافية.
مصادرة الأراضي الفلسطينية:
- إطباق السيطرة الإسرائيلية على غالبية أراضي مناطق (ج)، حيث لم يتم منح الفلسطينيين تصاريح بناء في هذه المناطق لعقود.
- مصير غامض لـ30 ألف دونم من الأراضي المسجلة بأسماء فلسطينيين في مناطق (ج)، مما يهدد بفقدانهم لهذه الأراضي لصالح المشروع الاستيطاني.
تكريس نظام الفصل العنصري:
- تعزيز نظام "الأبارتهايد" عبر تحويل الفلسطينيين إلى تجمعات سكانية معزولة تحيط بها المستوطنات، ما يعزز العزلة الجغرافية ويقلل من فرص التواصل والتنمية.
تقويض إمكانية الدولة الفلسطينية:
- يؤدي القرار إلى تقليص المساحة المتاحة لإقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا، مما يجعل إقامة كيان سياسي مستقل أمرًا مستحيلًا.
تفاقم المعاناة اليومية للفلسطينيين:
- مواجهة صعوبات متزايدة في الحصول على تصاريح البناء وإدارة الأراضي.
- تعطل الخدمات الأساسية، مثل التعليم والصحة.
- الحد من حرية التنقل بين المدن والقرى الفلسطينية.
الضغط الاقتصادي:
- فرض قيود إضافية على الأنشطة التجارية والمناطق الصناعية والزراعية.
- حرمان الفلسطينيين من الوصول إلى الموارد الطبيعية، مما يقلل فرص النمو الاقتصادي ويزيد من الضغوط المعيشية.
إلغاء الإدارة المدنية ليس مجرد إجراء إداري، بل يمثل تحولًا جذريًا يعزز السيطرة الإسرائيلية على الأرض والموارد، مع إضعاف حقوق الفلسطينيين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يهدد مستقبل القضية الفلسطينية بأبعاد استراتيجية وإنسانية عميقة.
مخطط الضم من وجهة نظر القانون الدولي
مخطط الضم الإسرائيلي في الضفة الغربية يمثل انتهاكًا صريحًا ومباشرًا لمبادئ القانون الدولي، خصوصًا في ما يتعلق بالقواعد التي تحكم سلوك الدول في الأراضي المحتلة. يمكن تحليل هذا الانتهاك من خلال المحاور القانونية التالية:
انتهاك مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة
يُعد مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة ركنًا أساسيًا في ميثاق الأمم المتحدة (المادة 2 الفقرة 4)، والذي يحظر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة. الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية عام 1967 اعتُبر احتلالًا مؤقتًا لا يمنح "إسرائيل" أي حق سيادي على هذه الأراضي. لذلك، أي إجراء يهدف إلى ضمها يُعد انتهاكًا صارخًا لهذا المبدأ.
خرق اتفاقية جنيف الرابعة (1949)
تنص المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على حظر نقل السكان من دولة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة. ومع ذلك، تعمل إسرائيل بشكل ممنهج على توسيع المستوطنات ونقل المستوطنين إلى الضفة الغربية.
المادة نفسها تحظر الترحيل القسري للسكان الأصليين من أراضيهم، وهو ما يحدث بشكل واضح من خلال مصادرة الأراضي الفلسطينية وهدم المنازل.
انتهاك مبدأ تقرير المصير
يُعتبر حق تقرير المصير من المبادئ الأساسية للقانون الدولي، كما نصت عليه المادة 1 من العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. مخطط الضم يقوض إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة ويُجهض أي فرصة للفلسطينيين لممارسة حقهم في تقرير مصيرهم على أراضيهم.
تعزيز الفصل العنصري (الأبارتهايد)
سياسة الضم الإسرائيلي تعزز نظام الفصل العنصري من خلال تحويل الفلسطينيين إلى تجمعات سكانية معزولة محاطة بالمستوطنات، حيث تُقيّد حركتهم وتُفرض عليهم قوانين تمييزية. هذا السلوك يُمكن تصنيفه كجريمة ضد الإنسانية بموجب المادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والذي يُعرّف الأبارتهايد كأحد أشكال الجرائم ضد الإنسانية.
تجاهل قرارات الشرعية الدولية
تجاهل إسرائيل لمخطط الضم يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة، مثل القرار 242 (1967) والقرار 338 (1973)، اللذين يدعوان إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة.
كما يتعارض مع الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية عام 2004 بشأن الجدار العازل، الذي أكد أن بناء الجدار والتوسع الاستيطاني غير قانوني وينتهك حقوق الفلسطينيين.
مسؤولية المجتمع الدولي
وفقًا للمادة 1 من اتفاقية جنيف الرابعة، يلتزم المجتمع الدولي بضمان احترام الاتفاقية في جميع الأحوال. وهذا يتطلب اتخاذ خطوات ملموسة لوقف إجراءات الضم، مثل فرض عقوبات اقتصادية، وتجميد التعاون الدبلوماسي مع إسرائيل، وتعزيز جهود محاسبتها أمام المحاكم الدولية.
الخاتمة
يعكس المشهد السياسي في الضفة الغربية توافقًا داخل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي حول استراتيجيات تهدف إلى تعزيز الاستيطان وتوسيع "السيادة الإسرائيلية" على المنطقة. تمثل مشاريع وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، جزءًا أساسيًا من خطة استراتيجية تسعى إلى تكريس "السيطرة الإسرائيلية" على الأراضي الفلسطينية، مع تغيير الواقعين الديمغرافي والجغرافي في الضفة الغربية لصالح المستوطنات الإسرائيلية.
تعد عملية الضم التي يروج لها سموتريتش محاولة لإنهاء مفهوم الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، وهو الاحتلال الذي يعترف به المجتمع الدولي، بما في ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة، كاحتلال غير قانوني يجب إنهاؤه. تهدف هذه العملية إلى تحويل الأراضي الفلسطينية المصادرة إلى أراضٍ خاضعة بالكامل للسيادة "الإسرائيلية"، عبر نقل صلاحيات الإدارة من "الإدارة المدنية" إلى الوزارات "الإسرائيلية" المختلفة.
إلغاء الإدارة المدنية والضم التدريجي يعزز نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد)، ويحول الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى سكان معزولين في جيوب جغرافية غير مترابطة، تحاصرها المستوطنات والطرق "الإسرائيلية".