مقدمة
استأنف الاحتلال الإسرائيلي، فجر الثلاثاء 18 مارس/آذار 2025، هجماته المكثفة على قطاع غزة، في عملية عسكرية أطلق عليها اسم "الشجاعة والسيف"، إذ شنَّ غارات جوية عنيفة استهدفت مناطق مختلفة في القطاع، ما أسفر عن سقوط مئات الشهداء والجرحى.
جاءت هذه العودة إلى القتال بعد مرحلة من المراوغة السياسية والمناورات العسكرية، التي اتضحت معالمها في خلال الأيام الأخيرة، وسط توجه إسرائيلي واضح نحو التصعيد، مدعومًا بغطاء أمريكي مباشر.
يستعرض هذا التقدير، من إعداد برنامج الإنتاج المعرفي في مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، الدوافعَ الرئيسيةَ لاستئناف العدوان الإسرائيلي على غزة، والعوامل السياسية الداخلية والخارجية التي دفعت رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، نحو هذا الخيار، إضافةً إلى تحليل التوجهات المحتملة في المرحلة المقبلة.
أولًا: دوافع التصعيد الإسرائيلي
جاء استئناف القتال نتيجةً طبيعيةً لتداخل عدة عوامل سياسية وعسكرية وأمنية، داخلية وخارجية، دفعت نحو العودة إلى العدوان، على الرغم من المحاولات التي جرت للتوصل إلى مرحلة ثانية من الصفقة. يمكن تلخيص هذه الدوافع في المحاور التالية:
- الضغوط السياسية الداخلية وضرورة تثبيت الائتلاف الحكومي
- كان رئيس حكومة الاحتلال يدرك تمامًا أن الموافقة على المرحلة الثانية من الصفقة ستعني الدخول في ترتيبات مستدامة لوقف الحرب، وهو خيار يهدِّد بقاءه السياسي تهديدًا مباشرًا، إذ يمكن أن يؤدي إلى تفكك ائتلافه اليميني المتطرف، وربما خروجه النهائي من المشهد السياسي الإسرائيلي.
- جاء التصعيد العسكري قبل التصويت الحاسم على الموازنة، فقد كان فشل التصويت يعني سقوط الحكومة مباشرة، ولأن الفارق في الأصوات ضئيل احتاج بنيامين نتنياهو إلى تأمين تحالفه مع إيتمار بن غفير، ما تطلَّب العودة إلى التصعيد لإرضاء هذه الأطراف وضمان تمرير الموازنة.
- كما أن الجدل حول إقالة رئيس الشاباك وتهديدات قادة الشاباك والأمن السابقين بالتصعيد الداخلي، كانت مؤشرات على إمكانية اندلاع موجة احتجاجات واسعة، ما دفع نتنياهو إلى إعادة توجيه الأنظار نحو الحرب، واحتواء أية معارضة داخلية عبر إعادة تصدير الأولويات الأمنية والعسكرية.
- التحضير العسكري والاستفادة من فترة التهدئة
- كانت إعادة التموضع العسكري لجيش الاحتلال، والتغييرات القيادية داخل هيئة الأركان بعد تكليف رئيس الأركان الجديد، إيال زامير، مؤشرًا واضحًا على أن التحضير لجولة جديدة من القتال كان جاريًا.
- استغلت دولة الاحتلال فترة الهدوء لجمع المعلومات، عبر استخلاص المعلومات من أسرى الاحتلال المفرج عنهم ضمن الصفقة، ورصد التحركات الداخلية في غزة، ما منحها صورة أوضح عن الأهداف التي يمكن استهدافها في المرحلة المقبلة.
- لم تكن المناورات العسكرية المكثَّفة التي أجراها الجيش في خلال الفترة الماضية سوى جزء من خطة تحضيرية لعمليات برية وجوية تستهدف بنية المقاومة، بشكل مختلف عن المرحلة السابقة من العدوان.
- الدعم الأمريكي واستكمال استراتيجية الإطباق على المقاومة
- جاء التصعيد العسكري الإسرائيلي متزامنًا مع ضربات أمريكية مكثَّفة استهدفت حركة أنصار الله في اليمن، ما يشير إلى تنسيق أمريكي - إسرائيلي واسع لتحييد جبهات الإسناد المتبقية للمقاومة الفلسطينية.
- كما كثَّفت الولايات المتحدة تهديداتها لإيران، لمنعها من تحريك أية جبهة جديدة، ما يؤكِّد أن استئناف الحرب جاء في إطار خطة شاملة تهدف إلى خنق خيارات المقاومة، وعزلها ميدانيًّا وإقليميًّا.
- لم يكن الدعم الأمريكي فقط موافقة على استئناف القتال، بل امتد ليشمل تقديم غطاء سياسي ولوجستي كامل، لضمان استمرار العمليات العسكرية لفترة طويلة دون ضغوط دولية حقيقية لوقفها.
ثانيًا: الاستراتيجية الإسرائيلية المتوقَّعة في العدوان الجديد
يبدو أن الاحتلال يسعى إلى اتباع تكتيكات مختلفة في هذه الجولة من العدوان، تتسم بمراحل تصعيد متدرجة، وفق العناصر التالية:
- تصعيد تدريجي عبر الضربات الجوية والاغتيالات
- ستعتمد "إسرائيل" في البداية على تكثيف القصف الجوي واستهداف قيادات المقاومة، والمنشآت الحيوية في غزة، بهدف إضعاف منظومة القيادة والسيطرة داخل الفصائل.
- يُتوقع أن يجري تصعيد ممنهَج في استهداف البنية التحتية المدنية والخدمية، ضمن سياسة العقاب الجماعي، بهدف دفع القطاع نحو مزيد من الانهيار الإنساني والاقتصادي.
- استهداف العمل الحكومي في غزة
- يتضح من تصريحات قادة الاحتلال أن الحرب لن تقتصر على استهداف الأفراد، بل ستمتد إلى القضاء على أية مظاهر للحكم والإدارة المدنية في غزة، لمنع أية محاولة لإعادة ترتيب الأوضاع الإدارية داخل القطاع.
- يسعى الاحتلال إلى إحداث انهيار شامل في الخدمات الحكومية، عبر استهداف ما تبقَّى من المؤسسات والوزارات، والبنية التحتية الحيوية.
- عمليات خاصة تستهدف تحرير أسرى إسرائيليين
- قد يلجأ الاحتلال إلى عمليات خاصة تستهدف مواقع يُعتقد أن الأسرى الإسرائيليين محتجزون فيها، أو محاولة تنفيذ اعتقالات مؤثرة لتعزيز أوراقه التفاوضية مستقبلًا.
- من المحتمل أن تشمل هذه العمليات اقتحاماتٍ محدودةً عبر قوات خاصة، مدعومة بمعلومات استخبارية جُمِعت في خلال فترة التهدئة.
- التمسك بالسقف الأمريكي الجديد في التفاوض
- ستُحاول "إسرائيل" فرض معادلة تفاوضية جديدة، تقتصر على تبادل الأسرى دون تقديم أية تنازلات تتعلق بوقف الحرب أو الانسحاب من غزة، كما حدَّده المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف.
- يعكس هذا الموقف توجهًا إسرائيليًّا لاستمرار الحرب لفترة طويلة، واستخدام المفاوضات أداةً لكسب الوقت وإعادة ترتيب الأوراق.
خاتمة: التداعيات المحتملة والمشهد القادم
يمثِّل استئناف العدوان الإسرائيلي تحديًا كبيرًا للحالة الفلسطينية والإقليمية، إذ يتزامن مع تصعيد واسع في الجبهات المحيطة بفلسطين، ومحاولات أمريكية إسرائيلية لإجهاض أي دعم يمكن أن تحصل عليه المقاومة من الخارج. كما يأتي في ظل أزمة سياسية داخل "إسرائيل"، تدفع نتنياهو إلى استخدام الحرب وسيلةً للنجاة السياسية، بدلًا من البحث عن حلول واقعية للصراع.
في المرحلة المقبلة، من المرجح أن:
- يتسع نطاق القصف الجوي والاغتيالات، مع احتمال تنفيذ عمليات برية محدودة.
- يحاول الاحتلال استخدام الضغط العسكري لفرض معادلة تفاوضية جديدة، تستبعد أي اتفاق يتضمن وقف الحرب أو الانسحاب.
- قد تشهد مناطق أخرى تصعيدًا متزامنًا، سواءٌ في الضفة الغربية أو على جبهات أخرى، ردًّا على التصعيد في غزة.
في النهاية، يبقى خيار الصمود والمواجهة العنوانَ الأساسيَّ لهذه المرحلة، إذ يبدو أن الاحتلال ذاهب إلى معركة طويلة الأمد قد تتخللها فترات هدوء مؤقت دون الوصول إلى إنهاء كامل للحرب، في ظل رهان إسرائيلي على استمرار الدعم الأمريكي، ورهان المقاومة على إدامة صمودها واستنزاف الاحتلال ميدانيًّا وسياسيًّا.