ضمٌ زاحف على هيئة بنية تحتية

إحاطة معلوماتية استيطان بصيغة هندسية: "طريق نسيج الحياة" وتفكيك الضفة الغربية

01:41 م،08 ابريل 2025

برنامج الرصد والتوثيق

تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا سيما القدس والضفة الغربية، تصعيدًا نوعيًا في سياسات الاحتلال الاستيطانية، يتجاوز نمط التوسع التقليدي نحو هندسة جغرافية شاملة تهدف إلى فرض وقائع ميدانية غير قابلة للتراجع. ويبرز في هذا السياق مشروع "طريق نسيج الحياة" – الذي تُطلق عليه دوائر الحكم الإسرائيلي أيضًا اسم "طريق السيادة" – بوصفه نموذجًا صارخًا لتحويل البنى التحتية إلى أداة ضم وتفتيت.

رغم الترويج الرسمي للمشروع كمبادرة لتسهيل حركة التنقّل وتحسين البنية التحتية، إلا أن جوهره يكشف عن مخطط استيطاني ممنهج يسعى إلى فصل مناطق الضفة الغربية عن بعضها، وعزل التجمعات الفلسطينية في معازل متناثرة، وتعزيز ربط الكتل الاستيطانية الكبرى بالقدس المحتلة ضمن خطة أوسع تُعيد رسم حدود "القدس الكبرى" وواقعها الديمغرافي.

تُجسّد هذه السياسات تحولًا خطيرًا نحو توسيع نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد"، وإغلاق الباب أمام أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. فالمشروع لا يستهدف الأرض فقط، بل يضرب عمق التماسك الاجتماعي، ويضع مئات العائلات الفلسطينية على عتبة التهجير القسري.

في هذا الإطار، تقدّم هذه الورقة، الصادرة عن برنامج الرصد والتوثيق في مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، إحاطة معلوماتية تفصيلية حول مشروع "طريق نسيج الحياة"، وتستعرض أبعاده السياسية والميدانية، وتأثيراته على الواقع الجغرافي والديمغرافي والسيادي في الضفة الغربية المحتلة، ضمن سياق أوسع من استراتيجية الضم الزاحف الإسرائيلية.

تفاصيل المخطط وأهدافه

صادق المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر (الكابينت) على تخصيص 303 ملايين شيكل لإنشاء طريق استيطاني يربط بين بلدتي العيزرية والزعيم، يُعرف بـ"طريق نسيج الحياة" أو "طريق السيادة". ويُعدّ هذا المشروع، في جوهره، بنية تحتية للفصل العنصري، إذ يقيم نظام طرق منفصلًا بين المستوطنين والفلسطينيين، بما يتيح للاحتلال فرض سيطرة فعلية على منطقة شاسعة في قلب الضفة الغربية، وتحويل حركة الفلسطينيين إلى طريق جانبي معزول، تمهيدًا لتنفيذ مخطط الضم الكامل لمنطقة "معاليه أدوميم" عبر مشروع E1 الاستيطاني.

وبمجرد افتتاح الطريق، ستتمكن سلطات الاحتلال من عزل الفلسطينيين كليًا عن منطقة معاليه أدوميم، ما يُمكّنها من استكمال ضمها الفعلي دون الحاجة لبناء جدار الفصل المخطّط له مسبقًا. كما ستُزال الحواجز الأمنية – لا سيما حاجز الزعيم – ويُنقل شرقًا إلى خارج حدود "معاليه أدوميم"، لتأمين حركة المستوطنين نحو القدس دون عوائق، بينما يُمنع الفلسطينيون من دخول تلك المنطقة بالكامل.

وسيمر الطريق عبر أراضٍ مصنفة ضمن المنطقة (ب) بحسب اتفاق أوسلو، والتي تخضع إداريًا للسلطة الفلسطينية. إلا أن الاحتلال التفّ على هذا التصنيف بتعريف الطريق كـ"طريق أمني"، ما أتاح له تجاوز إجراءات التخطيط المدني الرسمية وتجنّب الاعتراضات القانونية.

سيؤدي المشروع إلى تدمير مباشر للنسيج الاجتماعي والمعيشي لعدد من المجتمعات الفلسطينية مثل الخان الأحمر، جبل البابا، ووادي الجِمال، عبر عزلها عن محيطها في الضفة الغربية. كما سيُجبر مئات الفلسطينيين على النزوح القسري، نتيجة الاستيلاء على أراضيهم وهدم منازلهم بذريعة "أوامر عسكرية".

ويهدف المشروع أيضًا إلى فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، بما يؤدي إلى شطر الضفة فعليًا إلى نصفين. ومن خلال السيطرة على المناطق الحيوية الواقعة بين القدس، بيت لحم، ورام الله، يسعى الاحتلال إلى القضاء على القلب الجغرافي والاقتصادي لأي دولة فلسطينية مستقبلية.

وكان رئيس بلدية مستوطنة "معاليه أدوميم" قد صرّح صراحة أن الهدف من إنشاء الطريق هو عزل منطقة مركزية في الضفة الغربية عن الفلسطينيين وضمّها إلى "إسرائيل". كما أطلق رئيس "نفتالي بينيت" على المشروع اسم "طريق السيادة"، في دلالة واضحة على نوايا الضم، بينما اختارت الإدارة المدنية الإسرائيلية تسميته بـ"طريق نسيج الحياة"، في محاولة لتمويه أهدافه الاستيطانية تحت غطاء "تسهيل تنقّل الفلسطينيين" بعد عزلهم التام.

مواقف وزراء حكومة الاحتلال

رحّب كلّ من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب يسرائيل كاتس، إلى جانب رئيسي مجلسي مستوطنتي معاليه أدوميم وبيت إيل، بمصادقة "الكابينت" على مشروع الطريق الجديد، الذي تقدّم به "كاتس"، وفقًا لما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية.

وفي تعليقه على القرار، قال نتنياهو: "نواصل تعزيز أمن المواطنين الإسرائيليين وتوسيع رقعة الاستيطان. هذا الطريق الجديد سيسهم في تحسين حركة المرور لجميع سكان المنطقة، وسيدعم الجانب الأمني، إلى جانب كونه محورًا استراتيجيًا يربط بين القدس، معاليه أدوميم، ومنطقة الأغوار".

أما وزير الحرب يسرائيل كاتس، فقد شدد على أن "تعزيز الربط بين القدس ومعاليه أدوميم هو مصلحة عليا لإسرائيل"، واصفًا القرار بـ"التاريخي"، مشيرًا إلى أنه: "يدعم الاستيطان، ويعزز الأمن، ويحسّن جودة الحياة، ويُرسخ السيطرة الإسرائيلية على يهودا والسامرة" – وهي التسمية التوراتية للضفة الغربية المحتلة.

كما أوضح كاتس أن المشروع سيسهم في تقليل الازدحام وتخفيف الاحتكاك غير الضروري بين الفلسطينيين والمستوطنين، عبر تأمين حركة مرورية سلسة تربط بين القدس، معاليه أدوميم، والأغوار.

من جانبه، وصف رئيس بلدية مستوطنة "معاليه أدوميم"، غاي يفراح، القرار بأنه "إنجاز مالي غير مسبوق"، مشيرًا إلى أن الميزانية المخصصة للمشروع تبلغ 303 ملايين شيكل (نحو 82.25 مليون دولار). كما لفت إلى أن المشروع يتضمّن إنشاء نفق تحت الأرض يربط بين بلدتي العيزرية والزعيم الفلسطينيتين، بما يتيح – بحسب قوله – للفلسطينيين التنقل بين شمال وجنوب الضفة الغربية دون المرور عبر الطرق "الإسرائيلية".

أما رئيس مجلس مستوطنة "بيت إيل"، شاي ألون، فقد عبّر عن دعمه الكامل للمشروع، قائلاً: "الهدف من المشروع هو فرض السيادة الكاملة على يهودا والسامرة. أهنئ الحكومة على اتخاذ مسار جديد، شجاع وعادل، لتعزيز الاستيطان اليهودي في منطقة E1، وإنهاء فكرة إقامة دولة فلسطينية".

يعكس الإجماع السياسي داخل حكومة الاحتلال على مشروع "طريق نسيج الحياة" حالة من الانسجام النادر حول رؤية استراتيجية موحّدة: توسيع رقعة السيطرة الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتكريس واقع ميداني يصعب التراجع عنه سياسيًا.
ففي ظل الخلافات الحزبية والصراعات الداخلية، فإن الاصطفاف خلف هذا المشروع تحديدًا يُعبّر عن إدراك المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية لأهمية البنية التحتية في فرض الوقائع الاستيطانية وتعزيز سياسة الضم الزاحف، دون الحاجة إلى قرارات قانونية صريحة أو خطوات معلنة دوليًا.

ويبدو لافتًا أن هذا المخطط يجمع بين ثلاثة أهداف مركزية في الاستراتيجية الإسرائيلية:

  1. تحقيق اختراق ميداني صامت في منطقة حسّاسة مثل E1.
  2. منح المستوطنات الكبرى، وعلى رأسها معاليه أدوميم، عمقًا لوجستيًا وآمنًا.
  3. عزل الكتلة الفلسطينية المركزية بين القدس، رام الله، وبيت لحم، بما يُجهض إمكانية إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافيًا.

إن التوصيفات التي استخدمها قادة الاحتلال، مثل "الربط الاستراتيجي"، و"تحسين جودة الحياة"، و"تقليل الاحتكاك"، تحمل في طيّاتها لغة مموّهة لإخفاء أهداف التوسع والضم. وهي استراتيجية مألوفة في سياق المشاريع الاستيطانية التي تبدأ كـ"مشاريع خدمية" وتنتهي بتغييرات ديموغرافية وجيوسياسية عميقة.

بذلك، لا يُمثّل المشروع مجرد طريق جديد، بل حلقة مركزية في معركة السيطرة على قلب الضفة الغربية، ضمن سباق محسوب لفرض "السيادة" الإسرائيلية، وتصفية أي معالم للحلم الفلسطيني بدولة مستقلة.

التأثير على الواقع الجغرافي

يسعى الاحتلال الإسرائيلي من خلال مشروع "طريق نسيج الحياة" إلى إحداث تغيير جوهري في الواقع الجغرافي لمدينة القدس المحتلة، عبر استكمال عملية ضم الكتل الاستيطانية الكبرى الواقعة جنوب غرب وشمال شرق المدينة، وعلى رأسها مجمّعات: "غوش عتصيون"، "أفرات"، "معاليه أدوميم"، "ميشور أدوميم"، "كيدار"، و"متسبيه يريحو".

ويتكامل هذا المخطط مع مشروع E1، الذي يهدف إلى توسيع حدود ما يُعرف بـ"القدس الكبرى"، لتشمل منطقة جغرافية واسعة تمتد من جنوب مدينة بيت لحم، مرورًا بمشارف رام الله شمالًا، وصولًا إلى مشارف الأغوار شرقًا، ومستوطنة "بيتار عيليت" غربًا.

ويُنتج هذا الامتداد واقعًا جغرافيًا يُكرّس فصل الضفة الغربية فعليًا إلى شطرين، ويُقوّض إمكانيات الاتصال الجغرافي بين المدن الفلسطينية الرئيسية مثل القدس الشرقية، رام الله، وبيت لحم، ما يعني تعطيل أي قدرة على تطوير نواة جغرافية لدولة فلسطينية مستقبلية.

ويُهدد تنفيذ المشروع، لا سيما في منطقة E1، مصير أكثر من 1500 فلسطيني من البدو المقيمين في منطقة جبل البابا، ويُعرّضهم لخطر التهجير القسري بفعل الاستيلاء على أراضيهم وهدم مساكنهم، كما يُصادر آلاف الدونمات من الأراضي الخاصة، ويقوّض سبل العيش والرعي لتلك التجمعات البدوية الواقعة في المنطقة (ب) الخاضعة إداريًا للسلطة الفلسطينية.

ومع غياب أي بدائل للبقاء، يُشكّل المشروع مقدّمة فعلية لاقتلاع هذه التجمعات، في إطار سياسة ممنهجة لتفريغ المنطقة المحيطة بالقدس من سكانها الفلسطينيين.

التأثير على الواقع الديمغرافي

يُعد مشروع "نَسيج الحياة" أحد الأدوات التي يعتمدها الاحتلال في تغيير التوازن الديمغرافي لمدينة القدس المحتلة، لصالح تعزيز الغالبية اليهودية داخل حدود بلدية الاحتلال.

فمن خلال المخطط، تسعى "إسرائيل" إلى ضخ أكثر من 150 ألف مستوطن جديد ضمن حدود بلدية القدس الموسّعة، وهي منطقة تشكّل ما يقارب 10% من مساحة الضفة الغربية.

وفي المقابل، يعمل الاحتلال على إخراج أكثر من 100 ألف مقدسي من حملة الهوية الزرقاء خارج حدود البلدية، من خلال عزل أحياء فلسطينية كبرى خلف جدار الفصل العنصري، من بينها: كفر عقب، سميراميس، قلنديا، مخيم شعفاط، وادي الحمص، السواحرة الشرقية، وعناتا.

هذه السياسات، التي تقوم على إعادة رسم حدود بلدية القدس وفقًا للاعتبارات الديمغرافية، ستُفضي إلى تقليص نسبة الفلسطينيين في المدينة إلى حدود 12% فقط من إجمالي السكان، مقابل 88% من المستوطنين اليهود، مع حصر الوجود الفلسطيني في "جزر" سكنية صغيرة محاصرة، بلا تواصل جغرافي ولا قدرة على التوسع أو النمو الطبيعي.

وبذلك، يهدف المشروع إلى تحويل الفلسطينيين في القدس إلى أقلية محاصرة ومُجرّدة من الفعل السياسي والاجتماعي، في إطار استراتيجية ممنهجة لـ تهويد المدينة وتفريغها من طابعها العربي والإسلامي.

خلاصة تحليلية: الضم الزاحف على هيئة بنية تحتية

يُشكّل مشروع "طريق نسيج الحياة" امتدادًا مباشرًا لاستراتيجية "الضم الزاحف" التي تتّبعها حكومة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تُسخّر أدوات التخطيط العمراني والبنى التحتية كوسائل صامتة لتكريس الوقائع الاستيطانية على الأرض.
فالمشروع لا يهدف فقط إلى تحسين الحركة المرورية كما تزعم الرواية الرسمية، بل يحمل في جوهره هندسة سياسية وجغرافية شاملة تستهدف:

  • تفكيك وحدة الضفة الغربية جغرافيًا،
  • عزل مدينة القدس ديمغرافيًا،
  • وقطع الطريق نهائيًا أمام إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات تواصل ترابي ومركز حضري فاعل.

من خلال ربط الكتل الاستيطانية ببعضها البعض وفصل الفلسطينيين في طرق وجزر معزولة، يسعى الاحتلال إلى فرض الأمر الواقع، دون الحاجة إلى قرارات سياسية أو قانونية رسمية بالضم.
كما أن المشروع يُعيد تعريف "السيادة" على الأرض، عبر إحلال المنطق الاستيطاني محل السيادة الفلسطينية، واستباق أي أفق مستقبلي لدولة فلسطينية محتملة بمسارات ميدانية لا رجعة عنها.

في هذا السياق، يغدو "نَسيج الحياة" نقيضًا مباشرًا لفكرة الحياة الفلسطينية ذاتها، إذ يمزّق الجغرافيا، ويعزل السكان، ويهندس الخرائط لتخدم مشروعًا استيطانيًا استراتيجيًا، يجعل من أي حل سياسي مستقبلي محض وهم على أنقاض واقع مفروض بالقوة.