يُعد القطاع الزراعي في قطاع غزة ركيزة أساسية للاقتصاد المحلي والأمن الغذائي، إذ لعب دورًا محوريًا في توفير الغذاء وفرص العمل، رغم التحديات المتراكمة بفعل الاحتلال والحصار. وقد تميز هذا القطاع بتنوع إنتاجه ومرونته في مواجهة الأزمات المتكررة. إلا أن حرب الإبادة المستمرة منذ 7 أكتوبر 2023 ألحقَت به دمارًا واسعًا، طال المحاصيل الزراعية، والبنية التحتية، وسلاسل الإمداد، ما أدى إلى انهيار الإنتاج المحلي وزيادة الاعتماد على الواردات، فضلًا عن أضرار بيئية عميقة أثّرت على التربة والموارد الطبيعية.
ومع توسع المناطق العازلة وتحول مساحات واسعة من الأراضي الزراعية إلى مناطق غير صالحة للاستخدام، بات هذا القطاع في مواجهة خطر وجودي يهدد حاضره ومستقبله. كما أن التبعات البيئية طويلة الأمد، الناجمة عن استخدام أسلحة محرمة، فاقمت من تدهور النظام البيئي، وأضفت بُعدًا أكثر خطورة واستدامة للكارثة.
في هذا السياق، تهدف هذه الورقة، الصادرة عن برنامج الرصد والتوثيق في مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، إلى تسليط الضوء على واقع الزراعة في غزة قبل الحرب، واستعراض حجم الدمار الذي أصاب هذا القطاع خلال الحرب، بما يشمل الخسائر الاقتصادية، وآثار إقامة المنطقة العازلة، والتأثيرات البيئية بعيدة المدى، بوصفها جزءًا من حرب منهجية تستهدف مقومات الحياة في قطاع غزة.
- خلفية عن واقع الزراعة في قطاع غزة قبل الإبادة
يشكل قطاع غزة بيئة زراعية نشطة، إذ بلغت إجمالي المساحات المزروعة في مختلف محافظاته نحو 116,570 دونمًا. هذه الأراضي تنوعت بين المحاصيل الحقلية، الخضروات، والأشجار المثمرة، موزعة على خمس محافظات، كل منها لعبت دورًا محوريًا في دعم الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي. ورغم التحديات المستمرة كالحصار وشحّ الموارد، استطاع المزارعون الفلسطينيون تحويل كل شبر من الأرض إلى مصدر للحياة والعطاء.
في محافظة غزة، بلغ إجمالي المساحات المزروعة حوالي 11,257 دونمًا، وتوزعت بين المحاصيل الحقلية والخضروات والمحاصيل الشجرية. كانت كتلة غزة هي الأكبر من حيث النشاط الزراعي بنسبة 61.5%، تليها كتلة جحر الديك. القمح شكل غالبية المحاصيل الحقلية، بينما الخضروات زرعت بنسبة كبيرة خاصة في كتلة غزة.
أما شمال قطاع غزة، فقد كانت من أكثر المناطق نشاطًا زراعيًا، بمساحة مزروعة تجاوزت 33,000 دونم. تميزت منطقة بيت لاهيا بالريادة الزراعية بنسبة 45.6% من مجموع الزراعة في المحافظة، تليها بيت حانون. أكثر المحاصيل الحقلية زراعة كانت القمح، أما في الخضروات فقد برزت البطاطا والفراولة بشكل واضح. الزراعة المحمية (كالبيوت البلاستيكية والأنفاق) كانت منتشرة بشكل ملحوظ أيضًا، بينما احتلت الأشجار المثمرة، وخاصة الزيتون، حيزًا كبيرًا من الأراضي المزروعة.
في محافظة دير البلح، بلغت المساحة المزروعة نحو 17,833 دونمًا، بتوزيع متوازن بين الحقول والخضروات والأشجار المثمرة. تركزت الزراعة بشكل كبير في تجمع دير البلح ووادي السلقا. القمح كان المحصول الحقل الأبرز، في حين تصدرت البندورة والكوسا قائمة الخضروات. الزراعة المحمية كانت حاضرة بقوة، وتم اعتماد أنظمة ري متنوعة مثل الري السطحي والري بالرش والتنقيط، مما يدل على وعي تقني متقدم في الزراعة.
محافظة خان يونس، سجلت أكبر مساحة زراعية بين المحافظات، حيث بلغت حوالي 37,213 دونمًا. تنوع النشاط الزراعي فيها بين الحقول والخضروات والأشجار المثمرة، وكانت تجمعات خان يونس وعبسان الكبيرة من أبرز المناطق الزراعية. القمح كان المحصول الرئيسي، إلى جانب البصل سبايسي. البطاطا والبندورة كانت من الخضروات الأكثر زراعة. وتميزت المحافظة بانتشار أنظمة ري متطورة نسبيًا، خاصة في زراعة الأشجار.
محافظة رفح، رغم مساحتها الأصغر مقارنة بالمحافظات الأخرى، إلا أن النشاط الزراعي فيها كان ملحوظًا، حيث بلغ إجمالي المساحات المزروعة حوالي 16,547 دونمًا. تميزت تجمعات الشوكة ورفح بأعلى معدلات الزراعة، خاصة بمحاصيل القمح والشعير. في قطاع الخضروات، كانت البطاطا والبندورة في الصدارة. كما سجلت المحافظة نسبة كبيرة من الزراعات المحمية باستخدام البيوت البلاستيكية. واحتل الزيتون المرتبة الأولى في زراعة الأشجار المثمرة.
بلغت القيمة الأولية للصادرات السلعية المرصودة من قطاع غزة للعام 2022 ما قيمته 32.8 مليون دولار، بحيث شكّلت الصادرات الزراعية ما نسبته 55% من إجمالي الصادرات، حيث تركزت الصادرات الزراعية من قطاع غزة في نشاط زراعة الخضروات ومنتجات البستنة والمشاتل بواقع 16.1 مليون دولار. وأما من حيث المنتجات، فقد تركزت الصادرات الزراعية خلال العام 2022 في ثمار البندورة، حيث شكّلت 33.1% من إجمالي الصادرات الزراعية لعام 2022، تلاها الخيار بنسبة 33% من إجمالي الصادرات الزراعية.
تشكل المنتجات الزراعية المستوردة حوالي 56% من الاستهلاك النهائي للأسر، حيث بلغت القيمة الأولية للواردات الزراعية إلى قطاع غزة في العام 2022 حوالي 238 مليون دولار. حيث أن 46.3% من واردات القطاع الزراعي كانت من أنشطة زراعة الزيتون والفواكه والجوزيات والمحاصيل التي تستخرج منها المشروبات والتوابل، مقابل 17.3% من نشاط زراعة الخضروات ومنتجات البستنة والمشاتل.
- تدمير القطاع الزراعي خلال الإبادة
تعرض القطاع الزراعي في غزة إلى تدمير ممنهج وغير مسبوق خلال حرب الإبادة "الإسرائيلية" المستمرة، حيث لم تقتصر الاعتداءات على تجريف الأراضي الزراعية فحسب، بل امتدت لتشمل البنية التحتية الزراعية وسلاسل التوريد ومدخلات الإنتاج والمصانع الزراعية. وفقًا لتقرير صادر عن وزارة الزراعة في غزة، فقد بلغت خسائر القطاع الزراعي بعد عام واحد من العدوان ما يقارب مليار دولار أمريكي.
وبحسب بيانات صادرة عن مركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة (UNOSAT)، فإن إجمالي مساحة الأراضي الزراعية المتضررة حتى سبتمبر 2024 بلغ 101,830 دونمًا، أي ما يعادل 68% من المساحة الزراعية الكلية في القطاع، والمقدّرة بنحو 150,530 دونمًا.
وقد سجلت محافظة شمال غزة أعلى نسبة من الأضرار الزراعية بنسبة 78.2% من أراضيها، تليها مدينة غزة بنسبة 76%، ثم دير البلح بنسبة 64%. أما محافظة خان يونس فقد شهدت أكبر مساحة متضررة بلغت 25,890 دونمًا، بنسبة بلغت 61.5%، بينما كانت نسبة الضرر في محافظة رفح 56%.
أظهرت التقارير أن البساتين والأشجار المثمرة كانت الفئة الأكثر تضررًا، حيث بلغ إجمالي مساحة الأراضي المتضررة من هذه الفئة حوالي 63,020 دونمًا، أي ما يعادل 71.2% من إجمالي مساحتها المزروعة المقدرة بـ 88,560 دونمًا.
فيما يتعلق بالخضروات، فقد تعرضت حوالي 18,750 دونمًا للضرر، بنسبة 58.5% من المساحة المزروعة بالخضروات، والتي تبلغ 32,070 دونمًا.
أما المحاصيل الحقلية مثل القمح والشعير، فقد كانت من أكثر الفئات تعرضًا للأذى، حيث دمرت نحو 20,050 دونمًا، وهو ما يشكل نسبة 67.2% من المساحة الإجمالية المزروعة بها، والتي تُقدّر بحوالي 9,900 دونم.
يذكر أن أشجار الزيتون، والتي تندرج تحت فئة البساتين، كانت من أبرز الضحايا، حيث دمر منها حوالي 75% من إجمالي المساحة المزروعة. ويعد القمح أكثر المحاصيل الحقلية تأثرًا بالأضرار.
كما تأثرت الآبار الزراعية بشكل بالغ أيضًا، حيث تضررت 1,188 بئرًا في مختلف محافظات قطاع غزة، وهو ما يمثل 52.5% من إجمالي الآبار الزراعية. وقد سجلت أعلى نسبة ضرر في مدينة غزة، حيث تضرر حوالي 67.8% من آبارها، تليها محافظة خان يونس بنسبة 55.9%، ثم شمال غزة بنسبة 52%. وفي دير البلح، بلغت نسبة الأضرار 36.2%، بينما كانت في رفح حوالي 36% أيضًا.
أما الدفيئات الزراعية (البيوت البلاستيكية)، فقد تعرضت هي الأخرى لتدمير واسع، حيث بلغت المساحة المتضررة منها نحو 5,779 دونمًا، بما يعادل 44.3% من إجمالي مساحة الدفيئات الزراعية في القطاع. وقد سُجلت أعلى نسب تضرر في مدينة غزة بنسبة 99.7%، تليها شمال غزة بنسبة 89.7%. أما في خان يونس، فقد تضررت 49.7% من مساحة الدفيئات، وفي دير البلح 40.7%، بينما كانت النسبة في رفح حوالي 27.7%.
- تأثير المناطق العازلة على القطاع الزراعي
تشير تقارير ميدانية إلى أن أكثر من 75% من مساحة الأراضي الزراعية في قطاع غزة باتت خارج الخدمة، نتيجة تدميرها أو عزلها، في سياق العمليات العسكرية المتواصلة منذ السابع من أكتوبر 2023، وأظهرت البيانات أن جيش الاحتلال نفذ عمليات تجريف وتدمير ممنهجة للأراضي الزراعية، خاصة في المناطق الشرقية والشمالية من القطاع، على امتداد السياج الفاصل، بعمق يصل إلى نحو 2 كيلومتر. هذه العمليات طالت نحو 96 كيلومترًا مربعًا من الأراضي، أضيف إليها قرابة 3 كيلومترات مربعة في محيط محور نتساريم، وهي مساحة تمثل حوالي 27.5% من إجمالي مساحة القطاع.
كما تعرضت أراضٍ زراعية أخرى خارج هذه المناطق لتدمير جزئي أو كلي نتيجة القصف الجوي والمدفعي أو خلال التوغلات العسكرية، لتصل المساحة الإجمالية المتضررة إلى ما يعادل 36.9% من مساحة القطاع، وهو ما يعادل أكثر من ثلاثة أرباع المساحات المخصصة للزراعة.
ويسيطر حاليًا جيش الاحتلال على جميع الأراضي الزراعية الواقعة على امتداد الحدود الشرقية للقطاع ضمن ما أطلق عليه "المنطقة العازلة"، التي خرجت بالكامل عن الخدمة، كما أنها لم تعد صالحة للزراعة بسبب كمية المتفجرات التي أُلقيت عليها، وتكرار تجريفها، ومع عودة الاحتلال للسيطرة على رفح جنوبي قطاع غزة وعزلها عن محيطها، لم يعد بالإمكان الوصول إلى ما لا يقل عن 25 ألف دونم.
- تقلص الإنتاج الزراعي
وفق معطيات صادرة عن وزارة الزراعة الفلسطينية، تقلصت مساحة الأراضي المزروعة بالخضار في قطاع غزة من 85,000 دونم قبل الحرب إلى 7,000 دونم بعد الحرب، ما يعني أن 78 ألف دونم قيدت عن زراعة الخضراوات.
ونتيجة لذلك، تقلص الإنتاج الزراعي من 405,192 طنًا من الخضراوات إلى 48,623 طنًا فقط، وهو ما يعني خسارة مالية تقدر بـ 356,569 طنًا، وانخفض عدد أصناف محاصيل الخضار المزروعة من 40 صنفًا قبل الحرب إلى 17 صنفًا بعد الحرب.
وبذلك، تراجعت قيمة الإنتاج الزراعي من 268 مليون دولار إلى 32 مليون دولار فقط، وهو ما يساوي 236 مليون دولار خسارة مالية للاستهلاك المحلي و66 مليون دولار للصادرات.
وبينت وزارة الزراعة أن مساهمة مساحة الخضروات من مساحة الإنتاج النباتي في قطاع غزة قبل الحرب بلغت 44.7%، ووصلت قيمة إنتاج محاصيل الخضار إلى 42% من إجمالي قيمة الإنتاج الزراعي، و72% من إجمالي قيمة الإنتاج النباتي.
كما بلغت كمية إنتاج محاصيل الخضار 77% من كمية الإنتاج النباتي، و65.4% من كمية الإنتاج الزراعي بشكل عام.
ووصلت نسبة الاعتماد على الإمدادات الغذائية المحلية من محاصيل الخضار وبأسعار مناسبة إلى 115%، إذ يبلغ استهلاك الفرد من الخضار 172.5 كغم سنويًا.
وبلغت كمية الخضروات المصدرة 60 ألف طن، وساهمت صادرات الخضروات بما نسبته 80.7% من قيمة الصادرات الزراعية، وبلغت قيمتها التسويقية 66.1 مليون دولار.
- التأثير بعيد المدى للعمليات العسكرية على التربة والزراعة
لم تقتصر أضرار حرب الإبادة المستمرة على الجوانب الاقتصادية والإنتاجية فقط، بل كانت هناك تأثيرات بيئية خطيرة وطويلة الأمد، خصوصًا على التربة. فقد أشارت مدير عام الخدمات الزراعية بوزارة الزراعة، إيمان جرار، إلى أن استخدام الاحتلال للقنابل الفوسفورية سيؤثر على خصوبة التربة بشكل كبير وعلى مدى بعيد، وقد يفقدها صلاحيتها للزراعة مستقبلًا. كما أكدت أن حجم الأضرار الناتجة عن هذه المواد الكيميائية لا يمكن تقديره بدقة دون إجراء فحوصات مخبرية متقدمة.
الأمم المتحدة أكدت هذه المعطيات من خلال تقاريرها، حيث أوضحت أن حوالي 68% من الحقول المزروعة بالمحاصيل الدائمة في غزة أظهرت انخفاضًا حادًا في الكثافة النباتية والصحة العامة للنباتات بحلول سبتمبر 2024.
من المتوقع أن تتأثر المناطق الزراعية ذات الخصوبة العالية بشكل أكبر، بسبب اصطدام القنابل والمتفجرات بتربة لينة وغنية بالمواد العضوية، مما يسبب تفاعلًا عكسيًا يؤدي إلى تدهور إضافي في تلك المناطق.
ومن الآثار السلبية المتوقعة أيضًا:
- حفر الآبار الامتصاصية في الأراضي الزراعية.
- تعطل نظام جمع النفايات، مما أدى إلى تكدسها والتخلص منها بطرق غير سليمة.
- دفن المواد البلاستيكية والمعدنية والورقية والعضوية بشكل عشوائي، مما ينتج عنه عصارات سامة تؤدي إلى تلوث التربة وتعرض الكائنات الحية فيها والنباتات لتأثيرات مباشرة وغير مباشرة.
خلاصة: تدمير الزراعة في غزة كوجه آخر لحرب الإبادة
تُظهر الوقائع الميدانية لحرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، أن استهداف البيئة الزراعية ليس فعلًا عرضيًا أو ثانويًا، بل يأتي ضمن سياسة ممنهجة تهدف إلى تقويض مقومات الحياة اليومية وتفكيك البنية الاقتصادية للمجتمع الفلسطيني. فبالتوازي مع تدمير المنازل والبنية التحتية والخدمات الأساسية، يمضي الاحتلال في تنفيذ حملة تدمير واسعة لقطاع الزراعة، الذي يُشكّل مصدر دخل رئيسي لآلاف الأسر الفلسطينية، وعصبًا أساسيًا للأمن الغذائي الداخلي.
يتجلى هذا التدمير في تجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وتلويث التربة، واستهداف المزارع، ومنع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم، في ظل الإصرار على فرض منطقة عازلة واسعة على امتداد الحدود. وتكشف هذه السياسات عن نية مبيّتة لتصفية سلة الغذاء المحلية لقطاع غزة، وحرمانه من أي إمكانية للتعافي أو استعادة قدرته الإنتاجية في المستقبل القريب أو البعيد.
وتتجاوز آثار هذه السياسة البعد الاقتصادي والغذائي، إذ تندرج ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى جعل غزة بيئة غير قابلة للحياة، ودفع السكان نحو التهجير القسري، إما تحت وطأة القصف والدمار المباشر، أو نتيجة انسداد الأفق الاقتصادي والمعيشي طويل الأمد. بهذا المعنى، لا يُمثّل استهداف الزراعة فقط تدميرًا لمورد اقتصادي، بل هو حلقة في مشروع استعماري يسعى إلى تفريغ الأرض من أهلها، وفرض وقائع جيوسياسية جديدة على حساب الحقوق الفلسطينية.