بينما تتجه أنظار العالم نحو الخليج العربي ومضيق هرمز، دخلت منطقة الشرق الأوسط مرحلة غير مسبوقة من التوتر الإقليمي والاستنفار العسكري المتبادل. فقد كثّفت الولايات المتحدة من تموضعها الاستراتيجي في المنطقة عبر تعزيز انتشار حاملات الطائرات وأنظمة الدفاع الجوي، في وقت ردّت فيه إيران باستعراضات قوة من خلال مناورات عسكرية متقدمة، بما يعكس مشهدًا متسارعًا تزداد فيه احتمالات الانزلاق إلى مواجهة شاملة لم تعد بعيدة المنال.
ورغم انطلاق جولة تفاوضية غير مباشرة في العاصمة العُمانية مسقط، جمعت بين المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، إلا أن ضجيج الحشودات العسكرية لم يخفت، كما لم تهدأ نبرة التهديدات المتبادلة. ويرى مراقبون أن فرص نجاح هذا المسار التفاوضي تبقى محفوفة بالمخاطر في ظل المهلة الزمنية القصيرة التي حددها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تقيّد قدرة الطرفين على بناء تفاهمات حقيقية.
يسلّط هذا التقرير، الصادر عن مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، الضوء على طبيعة التصعيد العسكري بين طهران وواشنطن، ويحلّل دلالاته وسيناريوهاته المحتملة، من خلال حوار خاص مع الخبير في الشأن الإيراني سعيد شادوري.
حشود أمريكية غير مسبوقة: استعداد للردع أم تمهيد للمواجهة؟
منذ أغسطس 2024 وحتى أبريل 2025، شرعت الولايات المتحدة في تنفيذ واحدة من أكبر عمليات الحشد العسكري في منطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين. فقد دفعت بثلاث حاملات طائرات نووية هي: أبراهام لينكولن، هاري ترومان، وكارل فينسون، ترافقها مجموعات ضاربة تضم مدمرات وصواريخ موجهة وأنظمة اعتراض متقدمة، ما يشير إلى جاهزية لشن عمليات عسكرية دقيقة وعالية الكثافة.
ولم تقتصر التعزيزات على القوى البحرية، بل شملت أيضًا نشر قاذفات استراتيجية من طراز B-52 وB-2، ومقاتلات F-35 الشبحية، في مواقع استراتيجية تشمل قواعد في الخليج العربي والمحيط الهندي، وعلى رأسها قاعدة دييغو غارسيا. وهي خطوة وصفها مسؤولون في البنتاغون بأنها بمثابة "رسالة ردع صلبة" موجّهة لطهران، في ظل تصاعد التوترات الإقليمية.
وبحسب القيادة المركزية الأميركية CENTCOM، فإن هذه التحركات العسكرية تهدف إلى "ضمان الجاهزية التامة للتعامل مع أي تهديد إيراني مباشر أو عبر وكلائها في المنطقة"، مؤكدة أن واشنطن "لن تتوانى عن الدفاع عن مصالحها وحلفائها إذا ما تطلب الأمر".
ورغم أن واشنطن تضع هذا الاستعراض في إطار "الردع"، فإن طبيعته الكثيفة وانتشاره الجغرافي المتعدد يطرح تساؤلات جدية حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تكتفي بالتلويح بالقوة، أم أنها تضع الأسس الفعلية لمواجهة محتملة قد تندلع فجأة، أو تتطور ضمن حسابات الرد المتبادل.
المناورات الإيرانية: "الردع بالجاهزية"
في مواجهة التصعيد الأميركي المتزايد، لم تكتفِ إيران برفع نبرة التهديدات اللفظية، بل سارعت إلى تثبيت استراتيجية الردع من خلال تحركات ميدانية متقدمة، تمثّلت في سلسلة من المناورات العسكرية التي أطلقتها منذ مطلع عام 2025، واضعة سيناريو المواجهة في صلب أولوياتها الأمنية.
كان أبرز هذه التحركات مناورات "اقتدار 1403" التي نُفذت في يناير/كانون الثاني بمشاركة وحدات الدفاع الجوي التابعة للجيش الإيراني، وشملت عموم البلاد، مركّزة على تقييم الفعالية العملياتية وتعزيز التفوق الاستخباراتي. كما شهد الخليج العربي في الشهر ذاته مناورات بحرية كبرى قادها "الحرس الثوري"، حملت رسائل مباشرة لحماية مضيق هرمز، أحد أهم الممرات البحرية في العالم، وردع أي تدخلات محتملة.
في مارس/آذار، أقدمت طهران على خطوة نوعية من خلال تنظيم مناورات بحرية ثلاثية مع روسيا والصين قبالة ميناء تشابهار، في رسالة واضحة على توسيع قاعدة حلفائها الاستراتيجيين خارج المنظومة الغربية. ولم تلبث أن اختتمت تلك السلسلة بمناورات برية مشتركة مع أرمينيا على الحدود الشمالية الغربية في أبريل/نيسان، لمحاكاة صد هجمات تصنّفها طهران بـ"الإرهابية" وتعزيز قدراتها الأمنية الحدودية.
هذه التحركات المتزامنة تعكس توجهًا إيرانيًا نحو ترسيخ الردع الاستباقي القائم على الجاهزية الشاملة، مع إظهار قدرة طهران على التحرك ضمن فضاء سياسي وعسكري متعدد الأقطاب، بعيدًا عن محاور الضغط الغربي.
وفي تعقيبه لمركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، يؤكد المحلل الإيراني سعيد شادوري أن طهران لا ترى في التحركات الأميركية تهديدًا حقيقيًا، بقدر ما تعتبرها جزءًا من لعبة التوازن النفسي في المنطقة. ويقول: "إيران ترد على التهديد العسكري بالتهديد العسكري، وهي على أعلى درجات الجاهزية منذ شهور. الردع لا يكون بالكلام، بل بالاستعداد الميداني، وهذا ما نراه من خلال المناورات المستمرة".
ويرى شادوري أن الاستراتيجية الأميركية لم تنجح في دفع إيران إلى التراجع، بل على العكس، أثبتت طهران أنها لاعب عصيّ على الاحتواء. وأضاف: "لو كانت واشنطن قادرة فعليًا على حسم المواجهة عسكريًا، لفعلت كما فعلت في العراق عام 2003. لكن إيران ليست هدفًا سهلًا، وجهوزيتها العالية تجعل أي حرب خيارًا محفوفًا بالمخاطر".
ويستدل شادوري على ذلك بعودة الولايات المتحدة المتكررة إلى طاولة التفاوض، ولو بصيغة غير مباشرة، معتبرًا أن الدعوة الأميركية الأخيرة للحوار في مسقط تعبّر عن إدراك واشنطن لتعقيد المواجهة وتكاليفها الباهظة. ويختم بالقول: "الطرف الأميركي هو من بدأ بالتراجع عبر الدعوة لمفاوضات غير مباشرة، وطهران اليوم تملي شروطها، وواشنطن تتكيف معها."
تطور القدرات الإيرانية: من الاستيراد إلى التصنيع والتصدير
لم تعد إيران تلك الدولة التي تعتمد في تسليحها على الخارج، كما كانت قبل عقود. فقد تحوّلت تدريجيًا إلى قوة إقليمية تمتلك بنية صناعية عسكرية متقدمة، قادرة على إنتاج وتصدير أنظمة قتالية تشمل الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، في تحول استراتيجي يعكس قدرة طهران على تجاوز القيود المفروضة عليها، وبناء قوة ردع مستدامة من داخل حدودها.
قبل الثورة الإسلامية عام 1979، كان الجيش الإيراني يعتمد بشكل شبه كامل على السلاح الغربي، وخاصة من الولايات المتحدة. إلا أن اندلاع الثورة وما تبعها من عقوبات وعزلة دولية دفع طهران إلى تبني نهج الاكتفاء الذاتي، ووضع أسس صناعة عسكرية وطنية. وبرز هذا التحول بشكل جلي خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980–1988)، حين أسّست إيران "منظمة الصناعات الدفاعية"، وبدأت في إنتاج الأسلحة التقليدية، ثم انتقلت في التسعينيات إلى تطوير صواريخ باليستية قصيرة ومتوسطة المدى.
وفي العقدين الأخيرين، ارتفعت القدرات النوعية للمنظومة الدفاعية الإيرانية بشكل لافت، إذ باتت إيران من أبرز مصنّعي الطائرات المسيّرة في الشرق الأوسط، بطرازات مثل "شاهد-136" التي استخدمت في عدد من النزاعات الإقليمية والدولية، من أوكرانيا إلى اليمن. كما طوّرت ترسانة صاروخية يصل مداها إلى أكثر من 2000 كيلومتر، قادرة على استهداف قواعد ومنشآت استراتيجية في محيطها الإقليمي.
الأهم من ذلك أن طهران لم تعد تكتفي بالتطوير الذاتي، بل شرعت بتصدير التكنولوجيا العسكرية إلى حلفائها الإقليميين، ما يمنحها أوراق تأثير إضافية في معادلات الردع والصراع بالمنطقة. وتؤكد تقارير استخباراتية أن إيران زوّدت مجموعات حليفة في لبنان والعراق واليمن بأنظمة متقدمة، تشمل الطائرات المسيّرة والأنظمة الصاروخية الدقيقة، وهو ما يوسّع من نطاق قدرتها على إدارة المواجهات بطريقة غير مباشرة.
وفي تعليقه لمركز عروبة، أشار المحلل سعيد شادوري إلى أن إيران "أصبحت اليوم من مصدّري السلاح إلى أكثر من 50 دولة، من بينها روسيا التي اشترت طائرات مسيّرة من طراز 'شاهد'". واعتبر أن هذا التحول يعزز مكانة طهران كقوة ردع فعلية في الإقليم، مضيفًا: "إيران قادرة على إلحاق ضرر استراتيجي بأي معتدٍ، سواء كانت إسرائيل أو الولايات المتحدة، وهذا لم يعد مجرد خطاب، بل واقع قائم على الجاهزية والتكنولوجيا والانتشار الإقليمي".
ووفقًا لذلك، فإن التصنيع العسكري الإيراني لا يُعد مجرد تطور تقني، بل هو امتداد لرؤية استراتيجية متكاملة، تسعى من خلالها طهران إلى تثبيت مكانتها كقوة فاعلة ومؤثرة، لا يمكن تجاوزها في أي ترتيبات تخص مستقبل الإقليم.
إذا وقعت الضربة... الرد الإيراني جاهز
رغم التهديدات المتكررة من الولايات المتحدة وإسرائيل بإبقاء "الخيار العسكري على الطاولة"، إلا أن إيران تواصل التأكيد، عبر تصريحات مسؤوليها وبيانات جيشها، أن أي هجوم على منشآتها النووية أو بنيتها الاستراتيجية لن يمر دون رد قاسٍ، واسع النطاق.
وتشير تقديرات عسكرية واستخباراتية غربية إلى أن طهران قد تبادر في حال تعرّضها لضربة إلى تنفيذ ردود متزامنة تستهدف قواعد عسكرية أميركية في الخليج العربي، ومواقع استراتيجية داخل إسرائيل، وقد تمتد حتى إلى قواعد بعيدة مثل دييغو غارسيا في المحيط الهندي، التي تُعد من أبرز منصات انطلاق الضربات الأميركية.
وفي حديثه لمركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، يؤكد المحلل الإيراني سعيد شادوري أن الرد الإيراني "لن يكون تقليديًا". ويقول: "إذا حدث هجوم عسكري، فإن إيران سترد بشكل مباشر على إسرائيل، وعلى القواعد الأميركية في المنطقة، بما فيها قاعدة دييغو غارسيا في المحيط الهندي".
ويرى شادوري أن القيادة الإيرانية وضعت منذ سنوات سيناريوهات مفصلة للتعامل مع مثل هذا النوع من التصعيد، مضيفًا أن طبيعة الرد ستكون "غير مسبوقة في تاريخ المواجهات العسكرية الإقليمية، من حيث التوقيت، والتنسيق، والأهداف".
وبينما تراهن واشنطن وتل أبيب على أن التهديد بضربة محدودة قد يدفع إيران إلى تقديم تنازلات تفاوضية، يرى مراقبون أن مثل هذا الخيار ينطوي على مخاطر تفجير مواجهة شاملة في منطقة متخمة بالقواعد الأميركية والجبهات المفتوحة، وهو ما يعزز مخاوف انهيار "توازن الردع الهش" القائم حتى الآن.
العقوبات الاقتصادية: تأثير محدود وصمود طويل
منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو 2018، شرعت الإدارة السابقة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فرض حزمة غير مسبوقة من العقوبات الاقتصادية على إيران، استهدفت قطاعات حيوية شملت تصدير النفط، والنظام المصرفي، والنقل البحري، والتأمين، وحتى تجارة الذهب والمعادن الثمينة. ورغم الكثافة والصرامة التي اتّسمت بها تلك العقوبات، إلا أن طهران لم تنهَر اقتصاديًا كما كان متوقعًا، بل عمدت إلى تفعيل ما تسميه "الاقتصاد المقاوم".
استندت هذه المقاربة إلى مجموعة من السياسات الهادفة إلى تعزيز الإنتاج المحلي، والحد من التبعية للخارج، وتحفيز الصناعات الصغيرة والمتوسطة. كما سعت إيران إلى تنويع شركائها التجاريين، عبر توطيد العلاقات الاقتصادية مع الصين وروسيا ودول في أمريكا الجنوبية، والاعتماد على أدوات التفاف مرنة، مثل تبديل أعلام السفن، والتعاقدات غير المُعلنة، والدفع بالذهب أو العملات المحلية لتجاوز النظام المالي الدولي الذي تهيمن عليه واشنطن.
وفي هذا السياق، يشير المحلل سعيد شادوري في حديثه لـ"عروبة" إلى أن "الاقتصاد الإيراني لم ينهَر كما كان متوقعًا". ويرى أن طهران استطاعت أن تحيّد جزءًا كبيرًا من أثر العقوبات عبر منظومة اقتصادية بديلة، موضحًا: "إيران اليوم تعتمد على اقتصاد داخلي متماسك، مدعوم بعلاقات تجارية واسعة النطاق، وهو ما وفّر لها هامش مناورة سياسي واقتصادي في مواجهة الضغوط الغربية".
ويُجمع مراقبون على أن صمود الاقتصاد الإيراني – رغم التحديات البنيوية التي يعاني منها – قد ساهم في تعزيز موقع طهران التفاوضي، ومنحها قدرة على الاستمرار في تبني سياسات خارجية مستقلة، دون الاضطرار لتقديم تنازلات جوهرية مقابل رفع العقوبات.
الدبلوماسية بشروط إيرانية
رغم التصعيد العسكري والضغوط الاقتصادية المتواصلة، لم تُغلق إيران باب الحلول الدبلوماسية، لكنها تفضّل أن يُفتح وفق شروطها الخاصة. ومنذ استئناف الحديث عن إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي، حرصت طهران على التأكيد أن أي مفاوضات مع الولايات المتحدة يجب أن تتم بشكل غير مباشر، عبر وسطاء مثل سلطنة عمان وسويسرا، وذلك استنادًا إلى تجارب سابقة وأزمة ثقة متجذّرة، بحسب تصريحات وزير الخارجية عباس عراقجي.
وترى إيران أن التفاوض المباشر مع واشنطن في ظل العقوبات والضغوط السياسية يُعدّ تنازلًا غير مقبول، سواء من حيث الشكل أو المضمون. فإلى جانب الرغبة في الحفاظ على توازن الموقف التفاوضي، تسعى القيادة الإيرانية إلى صيانة جبهتها الداخلية من أي مظهر للضعف السياسي، خصوصًا أن شريحة واسعة من الرأي العام الإيراني ترى في التفاوض المباشر خضوعًا لإملاءات خارجية.
وفي هذا السياق، تُصر طهران على ثلاث نقاط تفاوضية رئيسية: رفع شامل وفوري للعقوبات، الاعتراف بحقوقها في تطوير برنامج نووي سلمي، ورفض إدراج ملفات إضافية مثل برنامج الصواريخ أو النفوذ الإقليمي في أجندة التفاوض. وتعتبر إيران أن أي محاولة لتوسيع دائرة المفاوضات خارج الملف النووي تمثّل التفافًا على جوهر الاتفاق وانحرافًا عن مبدأ "الالتزام مقابل الالتزام".
ومع تحديد جولة تفاوضية جديدة في 19 أبريل، تبقى احتمالات نجاح هذا المسار مرهونة بمدى استعداد الطرفين لتقديم تنازلات حقيقية. ويبدو أن إيران تراهن على عامل الوقت، وتسعى لتعزيز أوراقها الميدانية والسياسية، بما يسمح لها بخوض التفاوض من موقع قوة لا ضعف.
وفي تعقيبه لمركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، يوضح المحلل سعيد شادوري أن طهران لا تزال تتوجس من النوايا الأميركية، قائلاً: "إيران لا تثق بجدية واشنطن، وترى أن أي مفاوضات يجب أن تكون غير مباشرة، ما لم تلتزم الولايات المتحدة برفع العقوبات والاعتراف بحق الشعب الإيراني في تطوير برنامجه النووي السلمي".
ماذا عن حلفاء إيران؟ إعادة تموضع أم تراجع
رغم المؤشرات التي تُظهر تراجع الدور الإيراني في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، إلا أن طهران لم تخرج من المشهد الإقليمي، بل أعادت ترتيب أوراقها وتركّزت على تعزيز نفوذها في جبهات أكثر تأثيرًا. فإيران لا تزال تملك شبكة إقليمية متماسكة من الحلفاء، تمثّل ما يُعرف بمحور المقاومة، وتُستخدم كقوى تحالف رادعة في مواجهة التهديدات.
في اليمن، تواصل طهران دعم حركة أنصار الله بالخبرات والتكنولوجيا والسلاح، ما مكّنها من التحول إلى لاعب إقليمي قادر على ضرب العمق السعودي وتهديد الممرات البحرية الحيوية، بما في ذلك البحر الأحمر وخليج عدن، إضافة لاستهداف القواعد العسكرية الإسرائيلية في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة. أما في لبنان، فيبقى "حزب الله" الحليف الأقوى لإيران، سياسيًا وعسكريًا، بما يمتلكه من قدرات صاروخية وميدانية تجعل منه خصمًا صعبًا، وشريكًا مركزيًا في معادلات الردع الإقليمية، وبالرغم من نتائج جولة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي لا يزال الحزب اللبناني يتمتع بقدرات عسكرية واسعة ومؤثرة.
وفي العراق، تُعد طهران لاعبًا بارزًا في صياغة المشهد السياسي والأمني، مستفيدة من دعم فصائل مسلحة وتحالفات حزبية، وتستثمر في العلاقة مع حكومات متعاقبة لتعزيز نفوذها ضمن ما يُعرف بـ"العمق الاستراتيجي".
ويعلّق المحلل سعيد شادوري على هذا المشهد قائلًا لمركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي: "رغم ما حصل في سوريا، إلا أن حلفاء إيران لا يزالون فاعلين. اليمن بات أكثر تأثيرًا في المعادلة الإقليمية، ويشكّل تهديدًا مباشرًا للمصالح الإسرائيلية والأميركية في المنطقة".
ويرى شادوري أن الحديث عن تراجع محور المقاومة هو تبسيط مخلّ للمشهد، معتبرًا أن ما يجري هو عملية "إعادة تموضع" تهدف إلى الحفاظ على استدامة النفوذ لا التخلي عنه. ومن هذا المنظور، تواصل إيران تكييف أدواتها في المنطقة، بما يتلاءم مع تغيرات الجغرافيا السياسية وتحوّلات الميدان.
خلاصة المشهد: إلى أين تتجه الأزمة؟
في ظل تداخل المعطيات الميدانية مع التوترات السياسية والتعقيدات الدولية، تقف منطقة الشرق الأوسط على حافة سيناريوهات مفتوحة. فمن جهة، تتصاعد الحشود العسكرية والمناورات الاستفزازية، في مقابل مساعٍ دبلوماسية تسير ببطء شديد وتفتقر إلى الثقة المتبادلة. هذا التناقض يضع المنطقة أمام معادلة حساسة: تصعيد قابل للاشتعال في أي لحظة، مقابل محاولات لاحتواء الانفجار عبر نوافذ تفاوضية هشّة.
الولايات المتحدة تواصل استخدام مزيج من الضغوط الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية في تعاملها مع إيران، دون أن تُحدث حتى الآن اختراقًا حقيقيًا في جدار الممانعة الإيرانية. وفي المقابل، تواصل طهران بناء منظومتها الدفاعية، وتُفعّل تحالفاتها الإقليمية، وتعزز أوراقها في ملفات التفاوض، مستندة إلى اقتصاد متماسك، وقدرة ردع متقدمة، وحلفاء مؤثرين في أكثر من ساحة اشتباك.
وفي ختام حديثه لمركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، يكرّر المحلل سعيد شادوري قناعته بأن: "الولايات المتحدة لن تجرؤ على مهاجمة إيران، لأنها تدرك أن الرد سيكون مكلفًا ومزلزلًا، ليس فقط عسكريًا، بل استراتيجيًا أيضًا."
وعليه، فإن مآلات المشهد تظل معلّقة على ميزان دقيق من الحسابات: أي اختلال في التقدير أو تصعيد غير محسوب، قد يفضي إلى اندلاع مواجهة إقليمية واسعة النطاق، ستتجاوز في تأثيرها حدود إيران والولايات المتحدة، لتطال كامل بنية الأمن الإقليمي.
في انتظار الجولة القادمة من التفاوض، تظل كل الخيارات على الطاولة، لكن الثابت الوحيد حتى الآن هو أن الشرق الأوسط يعيش لحظة اشتباك معلّق، قد تنقلب في أي لحظة إلى لحظة انفجار شامل.