تزامنًا مع اندلاع المواجهة العسكرية المباشرة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والاحتلال الإسرائيلي، برز البرنامج الصاروخي الإيراني باعتباره أحد أعمدة القوة الاستراتيجية الأكثر تأثيرًا في الصراع. فبعد عقود من التطوير التدريجي، لم تعد هذه الترسانة مجرد وسيلة ردع نظرية، بل تحوّلت إلى أداة عملياتية فاعلة، استُخدمت على نطاق واسع في جولات متعاقبة من الاشتباك، وأعادت رسم قواعد الحرب التقليدية في المنطقة.
تستعرض هذه الورقة التحليلية، الصادرة عن برنامج الإنتاج المعرفي في مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، تطور البرنامج الصاروخي الإيراني، مركّزة على مراحله التقنية، وأصنافه الرئيسية، والابتكارات النوعية التي أدخلتها طهران في ميادين الوقود والتوجيه والتخفي. كما تُحلل الورقة استخدام هذه القدرات في ثلاث جولات تصعيد متتالية (أبريل، أكتوبر 2024، ويونيو 2025)، وتُقيّم أثرها على فاعلية منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية والغربية، وعلى معادلة الردع الإقليمي برمّتها.
ولا تكتفي الورقة برصد المواصفات أو الهجمات، بل تتناول أيضًا التحولات المفاهيمية التي فرضها الأداء الإيراني على النظريات العسكرية السائدة، في ما يتعلق بتحدي الصواريخ الباليستية والفرط صوتية لأكثر منظومات الدفاع تطورًا، ودور هذا التطور في زعزعة ما كان يُعتقد أنه تفوق حاسم لصالح الاحتلال الإسرائيلي.
مراحل تطور البرنامج الصاروخي الإيراني
شهد البرنامج الصاروخي الإيراني تطورًا متسارعًا منذ انطلاقه خلال الحرب الإيرانية-العراقية، مرورًا بمرحلة الاكتفاء الذاتي، ووصولًا إلى تحقيق إنجازات تكنولوجية نوعية خلال العقود الأخيرة. ويعكس هذا التطور استجابة مباشرة للتحديات الأمنية الإقليمية، وسعي الجمهورية الإسلامية إلى تعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية من خلال بناء قاعدة إنتاج محلية متنامية لأنظمة الصواريخ الباليستية وصواريخ الكروز والفرط صوتية.
▪ المرحلة الأولى: الحرب الإيرانية – العراقية (1980–1988)
بدأت ملامح البرنامج الصاروخي الإيراني تتشكل خلال الحرب الإيرانية – العراقية، حين تعرضت إيران لهجمات صاروخية مكثفة من قِبل النظام العراقي باستخدام صواريخ "سكود" السوفييتية. وردًا على ذلك، لجأت طهران إلى استيراد صواريخ من دول مثل سوريا وليبيا، في محاولة لتحقيق توازن ردعي في ظل غياب بنية صناعية صاروخية محلية. وقد شكّلت هذه التجربة الدافع الأول نحو بناء قدرات ذاتية، حيث أدركت القيادة الإيرانية أهمية امتلاك قدرات صاروخية مستقلة. وفي عام 1988، تم تصنيع أول صاروخ محلي باسم "مشك" أو "إيران 130"، بمدى يتراوح بين 130 و160 كيلومترًا.
▪ المرحلة الثانية: الاكتفاء الذاتي (ما بعد 1988)
في مرحلة ما بعد الحرب، تحوّل البرنامج إلى التركيز على تطوير بنية تحتية صاروخية مستقلة، مع الاستفادة من الخبرات والتقنيات المتاحة عبر التعاون مع دول مثل روسيا، الصين، وكوريا الشمالية. وفي التسعينيات، بدأت إيران بإنتاج صواريخ باليستية أكثر تطورًا، أبرزها "شهاب 3"، المستند إلى تصميم صاروخ "نودونغ" الكوري الشمالي، والذي يصل مداه إلى نحو 2100 كيلومتر، ما مثّل نقلة استراتيجية في قدرة إيران على الوصول إلى عمق مناطق خصومها.
▪ المرحلة الثالثة: التطورات الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة
خلال العقدين الماضيين، شهد البرنامج الصاروخي الإيراني قفزات نوعية، تمثلت في تنويع منظومات الإطلاق والتطوير المحلي لصواريخ باليستية متوسطة وبعيدة المدى، بالإضافة إلى صواريخ كروز دقيقة الإصابة، وأخرى فرط صوتية يصعب اعتراضها. وفي عام 2022، أعلنت إيران عن تطوير أول صاروخ فرط صوتي تحت اسم "فتاح"، دخل الخدمة رسميًا في 2023، ما عزز قدرة الردع الإيرانية ضد منظومات الدفاع الجوي المتطورة. كذلك، طوّرت إيران صواريخ فضائية مثل "سفير" و"سيمرغ"، ضمن مساعيها لإطلاق الأقمار الصناعية وتعزيز موقعها في سباق الفضاء، بما يخدم أهدافها العسكرية والمدنية.
أنواع الصواريخ الإيرانية
طورت إيران ترسانة صاروخية تُعد من بين الأكثر تنوعًا وتطورًا في منطقة الشرق الأوسط، وتشمل صواريخ باليستية بمختلف المديات، وصواريخ كروز، وصواريخ فرط صوتية، بالإضافة إلى صواريخ مخصصة للأغراض الفضائية. ويعكس هذا التنوع سعي إيران إلى تحقيق تفوق استراتيجي وتوازن ردعي في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي.
1. الصواريخ الباليستية بعيدة المدى
- صاروخ عماد: أول صاروخ بعيد المدى تم تطويره محليًا، يبلغ مداه 1700 كيلومتر، ويزن نحو 17.5 طنًا، ويتميز بدقة إصابة عالية بفضل أنظمة التوجيه المتقدمة.
- صاروخ قدر H)، F،(S توفر بثلاثة نماذج مختلفة، ويصل مداه الأقصى إلى 2000 كيلومتر، مع قدرة على حمل رؤوس حربية تزن حتى 1.8 طن.
- صاروخ سجيل: يعمل بالوقود الصلب، ويُعد من بين أكثر الصواريخ تطورًا في الترسانة الإيرانية، بمدى يتراوح بين 2000 و2500 كيلومتر وسرعة عالية تزيد عن 17,000 كيلومتر/ساعة.
- صاروخ خرمشهر: يتميز بقدرة على حمل رأس حربي كبير يصل إلى 1.5–1.8 طن، ويبلغ مداه 2000 كيلومتر. يعمل بالوقود السائل، ويعتمد على نظام توجيه متطور، رغم أن سرعته أقل من نظائره العاملة بالوقود الصلب.
- صاروخ عاشوراء: من أوائل النماذج الإيرانية العاملة بمحرك ثنائي المراحل بالوقود الصلب، بمدى يُقدّر بين 2000 و2500 كيلومتر، ويُعتقد أنه مهّد الطريق لتطوير صواريخ "سجيل" الأكثر تقدمًا.
2. الصواريخ الباليستية متوسطة وقصيرة المدى
- صاروخ شهاب 3: دخل الخدمة عام 2003، بمدى يصل إلى 2100 كيلومتر، ويُعد من أقدم الصواريخ الإيرانية، مستندًا إلى تصميم "نودونغ" الكوري الشمالي.
- صاروخ الحاج قاسم: كُشف عنه عام 2020، بمدى 1400 كيلومتر، ويتميز بمسار طيران منخفض وقدرة على المناورة لتفادي أنظمة الدفاع الجوي.
- صاروخ فاتح 110: صاروخ دقيق الإصابة، بمدى 300 كيلومتر، وتم تطوير أربعة أجيال منه لتحديث المدى والتوجيه.
- صاروخ فاتح 313: نسخة أكثر تطورًا من سلفه، بمدى يصل إلى 500 كيلومتر، مزود بأنظمة توجيه تعتمد على القصور الذاتي والملاحة عبر الأقمار الصناعية.
- صاروخ قيام-1: يستخدم نظام توجيه مزدوج يجمع بين الملاحة بالقصور الذاتي والتوجيه الطرفي، مما يمنحه دقة إصابة عالية.
- صاروخ رعد: صاروخ أرض-أرض قصير المدى، لا ينبغي الخلط بينه وبين الصاروخ البحري الإيراني أو الباكستاني بنفس الاسم. دخل مرحلة الإنتاج عام 2004، وبدأت خدمته عام 2007، ويبلغ مداه المعلن 350 كيلومترًا.
3. الصواريخ الفرط صوتية
- صاروخ فتاح-1: أول صاروخ باليستي فرط صوتي إيراني، أعلن عنه عام 2022. تبلغ سرعته بين 13 و15 ماخ، ومداه نحو 1400 كيلومتر، ويتميّز بقدرته على المناورة داخل وخارج الغلاف الجوي، مما يجعل اعتراضه أمرًا بالغ الصعوبة.
- صاروخ فتاح-2: كُشف عنه في نوفمبر 2023، يعمل بالوقود السائل، ويُقدّر مداه بـ1500 كيلومتر. تشير تقارير إلى احتمال استخدامه أو نموذج مشابه له في هجمات دقيقة خلال تصعيد أكتوبر 2024 ضد الاحتلال الإسرائيلي، ما أدى إلى تحييد جزئي لمنظومات "آرو" الدفاعية، دون إعلان رسمي من طهران حول تفاصيل الاستخدام.
4. صواريخ كروز
- صاروخ سومار: أعلن عنه عام 2015، ويُقدّر مداه بين 2500 و3000 كيلومتر، ويستند إلى تصميم صاروخ "Kh-55" الروسي. يتمتع بقدرة عالية على التخفي عن الرادار بفضل تحليقه المنخفض.
- صاروخ هويزه: بمدى 1350 كيلومترًا، ويستخدم لضرب أهداف استراتيجية بدقة عالية.
- صاروخ هاربون: صاروخ كروز أميركي مضاد للسفن، حصلت عليه إيران في سبعينيات القرن الماضي قبل الثورة. لا يُعرف ما إذا كان لا يزال في الخدمة، لكنه شكّل أساسًا لتطوير نماذج بحرية محلية.
5. صواريخ الفضاء
- صاروخ سفير: استخدم في إطلاق أول قمر صناعي إيراني "أميد" عام 2009، ويعتمد على تطوير صاروخ "شهاب 3".
- صاروخ سيمرغ: قادر على وضع أقمار صناعية متعددة في مدار منخفض يصل إلى 450 كيلومترًا.
- صاروخ قائم 100: أول صاروخ فضائي إيراني ثلاثي المراحل يعمل بالوقود الصلب، استخدم عام 2024 لإطلاق قمر "ثريا"، ويُعد من أبرز إنجازات إيران في مجال الفضاء.
التكنولوجيا والابتكارات الصاروخية
لم يقتصر تطور البرنامج الصاروخي الإيراني على زيادة المدى أو رفع القدرة التدميرية، بل شمل أيضًا ابتكارات تكنولوجية نوعية عززت من كفاءة ومرونة الاستخدام العملياتي، وساهمت في ترسيخ العقيدة الصاروخية كركيزة مركزية في الاستراتيجية الدفاعية والهجومية الإيرانية. وتركزت هذه الابتكارات في ميادين الوقود، أنظمة التوجيه، البنية التحتية العسكرية، وتقنيات الإخفاء والرد السريع، ما أتاح لطهران امتلاك قدرة ضاربة فاعلة رغم العقوبات والقيود المفروضة على قطاعها الصناعي والعسكري.
• الوقود الصلب مقابل السائل:
شهدت السنوات الأخيرة تحولًا استراتيجيًا في تصنيع الصواريخ الإيرانية، حيث اتجهت طهران إلى استخدام الوقود الصلب في منظومات مثل "سجيل" و"فتاح"، نظرًا لسهولة التخزين، وسرعة الإطلاق، وتقليل وقت التحضير الميداني مقارنة بالصواريخ العاملة بالوقود السائل، ما يمنحها قدرة أعلى على المفاجأة والرد السريع.
• أنظمة التوجيه والتوجيه المركّب:
طورت إيران منظومات توجيه متعددة المصادر، تجمع بين الملاحة بالقصور الذاتي INSوالتوجيه الطرفي عبر الأقمار الصناعية GPS/GLONASS، مما أدى إلى تحسين دقة الإصابة وتقليل نسبة الانحراف، لا سيما في صواريخ مثل "فاتح 313" و"قيام-1"، التي أظهرت فاعلية متزايدة في الضربات الدقيقة.
• التقنيات الفرط صوتية:
يمثل تطوير صواريخ "فتاح-1" و"فتاح-2" قفزة نوعية في القدرات الإيرانية، إذ تصل سرعاتها إلى ما بين 13 و15 ماخ، مع قدرة على المناورة خارج الغلاف الجوي وداخله، مما يُصعّب رصدها واعتراضها بواسطة الأنظمة الدفاعية التقليدية مثل "باتريوت" و"آرو".
• البنية التحتية السرية: المدن الصاروخية تحت الأرض
استثمرت إيران في إنشاء شبكة من "المدن الصاروخية" تحت الأرض، التي تضم منصات إطلاق جاهزة، ومخازن آمنة للصواريخ، وممرات دعم لوجستي، بهدف الحفاظ على عنصر المفاجأة، وتقليل زمن الاستجابة، وإرباك أجهزة الاستخبارات المعادية. وقد أظهرت هذه المنشآت في عدة استعراضات عسكرية كعامل ردع استراتيجي، يعزز قدرة إيران على تنفيذ ضربات متعددة من مواقع يصعب استهدافها بشكل وقائي.
الحرب الإيرانية – "الإسرائيلية": من الرد المحدود إلى المواجهة المفتوحة
منذ ربيع 2024، شهدت العلاقة بين إيران والاحتلال الإسرائيلي تصعيدًا متدرجًا تحوّل من ردود موضعية إلى مواجهة شاملة، شكّلت اختبارًا ميدانيًا لترسانة طهران الصاروخية والمسيّرة، وكشفت في الوقت ذاته حدود الدفاع الإسرائيلي رغم الدعم الغربي. ويمكن تقسيم هذا التصعيد إلى ثلاث جولات رئيسية، تصاعد فيها مستوى النيران، وتوسعت دائرة الأهداف والوسائط المستخدمة.
■ أبريل/نيسان 2024: بداية الاشتباك المعلن
جاءت الجولة الأولى عقب قصف الاحتلال الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق، في عملية اغتيال استهدفت مسؤولين كبار في الحرس الثوري. وردّت طهران بهجوم واسع غير مسبوق، أطلقت خلاله أكثر من 170 طائرة مسيرة و120 صاروخًا باليستيًا باتجاه العمق الإسرائيلي. وقد استُهدفت مواقع عسكرية، أبرزها قاعدة رامون الجوية في النقب، باستخدام صواريخ مثل "خرمشهر-4" (خيبر).
ورغم نجاح منظومات الدفاع الجوية (القبة الحديدية، حيتس، مقلاع داوود) في اعتراض عدد من الهجمات، فإن هذا الرد مثّل أول ضربة مباشرة من إيران إلى داخل أراضي الاحتلال، ورسّخ معادلة ردّ جديدة لا تمرّ عبر حلفاء.
■ أكتوبر/تشرين الأول 2024: توسيع القوس الهجومي
مثّلت الجولة الثانية تصعيدًا إضافيًا، حيث ردّت طهران على موجة اغتيالات كان أبرزها اغتيال إسماعيل هنية على أرضها، إضافة لاغتيال السيد حسن نصرالله في لبنان، بتنفيذ هجوم صاروخي دقيق طال مواقع عسكرية وبُنى تحتية حساسة، بعضها في النقب ومحيط القدس المحتلة.
ويُعتقد أن هذه الجولة شهدت الاستخدام الأولي لصاروخ "فتاح-2" الفرط صوتي، في اختبار عملياتي محدود لكنه نوعي. كما شملت الهجمات تشويشًا إلكترونيًا على أنظمة الرادار الإسرائيلية. ورغم محدودية النطاق الزمني للعملية، فإن الاحتلال واجه صعوبة في التصدي الكامل للمقذوفات، ما دفعه إلى رفع حالة التأهب العسكري على مدار الأسابيع اللاحقة.
■ يونيو/حزيران 2025: المواجهة المفتوحة
بلغ التصعيد ذروته في يونيو 2025، عقب سلسلة غارات إسرائيلية استهدفت منشآت نووية ومصانع للصواريخ داخل إيران، وإغتيالات لعلماء نوويين وقادة في الحرس الثوري، ترافقت مع حملة إعلامية غربية تُمهّد لتوسيع الهجوم.
وردّت إيران بما وصفته الصحافة الدولية بـ"أوسع هجوم صاروخي منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية"، إذ أطلقت أكثر من 200 صاروخ باليستي و100 طائرة مسيرة، في أربع موجات متتالية استهدفت مواقع استراتيجية داخل الاحتلال الإسرائيلي.
وشملت الأهداف مصفاة نفط في حيفا، ومعهد وايزمان في رحوفوت، ومجمع وزارة الدفاع في تل أبيب. كما شهدت هذه الجولة أول استخدام معلن لصواريخ فرط صوتية على نطاق واسع، وصواريخ أطلقت من غواصات، ما شكّل رسائل ردعية من طهران حول امتلاكها قدرة ضرب متعددة الوسائط والمنصات.
دلالة التصعيد المتسلسل:
يعكس هذا التسلسل في جولات المواجهة تطورًا متدرجًا في طبيعة الاشتباك وأسلوب الرد الإيراني:
- في الجولة الأولى (أبريل)، أُطلقت الرسالة السياسية: أن طهران لن تقبل بعد اليوم باستهدافات مباشرة دون رد.
- في الجولة الثانية (أكتوبر)، أُدخلت تقنيات جديدة واختُبرت صواريخ فرط صوتية في نطاق عملي.
- وفي الجولة الثالثة (يونيو)، استُعرضت القدرة الإيرانية الكاملة على خوض مواجهة إقليمية موسّعة، تتخطى الحدود التقليدية وتوظف قدرات الردع الطويلة المدى والمناورة الجوية والبحرية، والقدرة على تحدي كل منظومات الدفاع الجوي للاحتلال الإسرائيلي والجيش الأمريكي وحلفاؤهم في المنطقة، ومدى فعالية الترسانة الصاروخية في المواجهة وتعويض غياب سلاح جو إيراني فاعل وحقيقي.
خاتمة:
حتى لحظة إعداد هذه الورقة، لم تتوقف المواجهة بين إيران والاحتلال الإسرائيلي، بل اتخذت طابعًا مستمرًا ومفتوحًا، تتخلله موجات إطلاق منتظمة ومنسقة من قبل الحرس الثوري الإيراني والقوات المسلحة الإيرانية، باستخدام طيف واسع من الصواريخ الباليستية والصواريخ الفرط صوتية. وتُنفذ هذه الضربات وفق جداول إطلاق عملياتية تعتمد على نظريتي الإغراق الصاروخي لتشتيت قدرات الاعتراض، والمباغتة الزمنية لاختراق الدفاعات الجوية التابعة للاحتلال الإسرائيلي وحلفائه في المنطقة.
وقد أدّت هذه الهجمات إلى إلحاق خسائر نوعية وغير مسبوقة في البنية التحتية الحيوية والعسكرية للكيان المحتل، وهي المرة الأولى التي يتعرض فيها العمق الإسرائيلي لهذا المستوى من الضغط العسكري المركّز، منذ تأسيسه.
في المقابل، يبقى التحدي الأبرز أمام القدرات الإيرانية متمثلًا في الحفاظ على القدرة الهجومية والإطلاق المستمر في ظل الغارات الإسرائيلية المتكررة، التي تستهدف منشآت إنتاج وتخزين الصواريخ، ومنصات الإطلاق، وغرف القيادة والسيطرة. وتُظهر المعطيات الميدانية أن الاحتلال يسعى بشدة إلى تفكيك البنية التحتية لبرنامج الصواريخ الإيراني وقطع خطوط الإمداد والجاهزية التقنية.
وتحمل هذه المواجهة، بكل ما كشفت عنه من نقاط ضعف وقوة، أهمية خاصة في إطار المراجعات العسكرية الدولية، إذ تُعيد اختبار المفاهيم التقليدية حول فعالية الدفاع الجوي، وتثبت في الوقت نفسه أن الصواريخ الباليستية والفرط صوتية باتت تمتلك قدرة حقيقية على تحدي بعض من أكثر المنظومات الدفاعية تطورًا في العالم.
إن المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية الجارية ليست فقط صراعًا على الجغرافيا أو الردع، بل أيضًا ميدانًا حيًا لإعادة تشكيل نظريات الحرب الحديثة، وصناعة توازنات قادمة في معادلة الردع الإقليمي والدولي.