منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، فرضت سلطات الاحتلال حصارًا رقميًا خانقًا، شمل منع دخول الأجهزة الإلكترونية مثل الحواسيب والهواتف المحمولة، مما أدى إلى شلل شبه كامل في البنية التحتية الرقمية للقطاع. هذا الحصار، الذي يُضاف إلى القيود المفروضة منذ سنوات طويلة، يهدد بتدمير ما تبقى من القطاع التكنولوجي الناشئ في غزة.
قد يبدو هذا الإجراء للوهلة الأولى تفصيلًا صغيرًا أمام المأساة الإنسانية الكبرى التي يعيشها الناس في غزة، لكنه في الواقع يحمل آثارًا كارثية متراكمة، خاصة بالنسبة للعاملين بالقطاعات الرقمية كالمبرمجين والمصممين والمترجمين والمسوقين والباحثين عبر الإنترنت، إضافةً إلى طلاب الجامعات والمدارس الذين أصبحوا يعتمدون بشكل كلي على التعلم الإلكتروني في ظِل انقطاع التعليم الوجاهي بسبب استمرار الحرب واستهداف البنى التعليمية وتحول ما تبقى منها إلى مراكز إيواء.
أزمة الأجهزة الإلكترونية: نقص حاد وارتفاع أسعار
يواجه سوق الهواتف وأجهزة الحواسيب الثابتة والمحمولة في قطاع غزة نقصًا حادًا للغاية، يرافقه أيضًا عجز كبير في توفر قطع الغيار اللازمة للصيانة والإصلاح. وفي ظل هذا الوضع، تُعرض الكميات القليلة المتبقية بأسعار باهظة جدًا، إذ تصل أحيانًا إلى عشرة أضعاف الأسعار الأصلية، مما يجعل اقتناء الأجهزة الإلكترونية حلمًا بعيد المنال لكثير من السكان. قبل العدوان، كان القطاع يستورد عبر معبر كرم أبو سالم عددًا قليلًا من أجهزة الحاسوب واللابتوب شهريًا.
المهندس سليمان المدهون مستشار اتحاد شركات تكنولوجيا المعلومات في مقابلة خاصة مع مركز عروبة، يقول: إن "معدل دخول أجهزة الحواسيب سواء المكتبية او المحمولة كان ما يقارب ال 1000 جهاز، وفى افضل الأحوال 1500 وذلك من خلال معبر كرم ابوسالم التجاري وفق التنسيقات الخاصة المسموح بها".
المدهون يؤكد أن "أسعار الأجهزة بمواصفاتها وأشكالها كانت قبل الحرب بمتوسط أسعار الأجهزة المستخدمة، اذ تبدأ من 100$ الى 700 $ وصولًا الى الأجهزة الاحترافية، وبالنسبة للأجهزة الجديدة فكانت تبدأ من 300$ الى 2500$ وصولًا الى الأجهزة الاحترافية. أما بعد بدء الحرب فوصلت الأسعار الى مستويات مرتفعة بسبب الندرة والشح".
ومع استمرار توقف الواردات بشكل كامل بسبب الحصار، تفاقمت الأزمة وأثرت بشكل مباشر على كافة مناحي الحياة، لاسيما التعليم والعمل عن بعد، وذلك لارتفاع أسعارها، لتضيف عبئًا إضافيًا على كاهل المواطنين في غزة الذين يعانون أصلًا من أزمات متلاحقة.
تضرر الأجهزة الحالية: تقادم وتلف
بعد مرور ما يقارب العام والنصف على الحرب على غزة، أصبحت الأجهزة الإلكترونية المتوفرة داخل القطاع تعاني بشكل واضح من التقادم والتلف، نتيجة لعوامل متعددة أثرت سلبًا على أدائها وجودتها. من أبرز هذه العوامل الانقطاعات الطويلة والمتكررة في التيار الكهربائي، التي دفعت السكان إلى الاعتماد على مصادر الطاقة البديلة، وأهمها الطاقة الشمسية.
ورغم أهمية هذه البدائل، إلا أن غالبية أنظمة الشحن المستخدمة تفتقر لمستلزمات الأمان الأساسية مثل البطاريات المناسبة، الأسلاك عالية الجودة، والمنظمات الضرورية، مما جعل عملية الشحن غير مستقرة وأدى إلى تقليل العمر الافتراضي للأجهزة بشكل كبير.
هذا الواقع الصعب تسبب في تلف العديد من الأجهزة، وأصبح استخدامها تحديًا حقيقيًا بالنسبة للأفراد والمختصين الذين يعتمدون عليها في حياتهم اليومية، سواء للدراسة أو العمل أو التواصل مع العالم الخارجي، وحتى الآن ليس هناك عدد واضح للأجهزة التالفة، وحجم الضرر في قطاع العتاد يعتبر كبير حيث أن معظم مخازن ونقاط البيع تضررت بشكل مباشر.
المهندس سليمان يشير إلى أن "هناك تباطؤ واضح في تسليم مهام المشاريع المطلوبة من أصحابها وذلك بسبب الصيانة المتكررة للأجهزة، وذلك لعدم استقرار مصادر الطاقة من شحن وتفريغ، موضحًا أن نسبة الأجهزة المتهالكة اكبر من المتعافية بالصيانة".
تأثير مباشر على القطاع التكنولوجي
لا يقتصر تأثير الحصار الرقمي على الأفراد فقط، بل يمتد ليهدد مستقبل القطاع التكنولوجي بأكمله في غزة. فقد حُرم العديد من "الفريلانسرز"، المبرمجين، المهندسين، المصممين والباحثين من مواصلة أعمالهم عبر الإنترنت، بعد أن أصبح الحصول على أجهزة إلكترونية مناسبة مهمة شبه مستحيلة بسبب النقص الحاد وارتفاع الأسعار.
كما اضطر طلبة المدارس والجامعات إلى التوقف عن دراستهم الإلكترونية، والعزوف عن العملية التعليمية مما يعمق الفجوة التعليمية والتكنولوجية بينهم وبين العالم الخارجي. هذا الوضع ينذر بتراجع خطير في قطاع يعتمد أساسًا على الاتصال المستمر والتحديث المستمر للمهارات والأدوات، مما يجعل إنقاذ هذا القطاع أولوية قصوى لضمان مستقبل شبابي واعد ومزدهر في غزة.
مستشار اتحاد شركات تكنولوجيا المعلومات يوضح أن: "جزءً كبيرًا من أصحاب العمل عن بعد فقدوا عقودهم التي كانت قائمة بسبب انقطاع فترة التواصل لعدم وجود انترنت أو اتصالات دولية، واضطر البعض منهم أو المعظم للسفر ودفع تكاليف مرتفعة لذلك والوصول الى مصر او تركيا او سلطنة عمان حيث الخدمات متوفرة، لكن لم يحظو بفرص سريعة لتعويض ما فقدوه".
صيانة محدودة وقطع غيار نادرة
تواجه محاولات صيانة الأجهزة القديمة في غزة تحديات كبيرة ومعقدة، نتيجة النقص الحاد في قطع الغيار وارتفاع تكاليف الصيانة إلى مستويات مرهقة. وزاد الوضع سوءًا مع تدمير العديد من مراكز الصيانة خلال الحرب، ما أدى إلى فقدان كميات كبيرة من القطع والمعدات الأساسية اللازمة للإصلاح.
هذا الواقع جعل الحفاظ على الأجهزة الإلكترونية المتبقية في حالة تشغيلية مهمة صعبة للغاية، حيث أصبح كل عطل صغير بمثابة أزمة حقيقية لا يمكن معالجتها بسهولة. ومع استمرار هذه الأزمة، تتفاقم المعاناة اليومية للأهالي الذين يعتمدون على هذه الأجهزة بشكل أساسي في أعمالهم ودراستهم وحياتهم اليومية.
المدهون يلفت إلى: أن "الصيانة اليوم في إطار متواضع ولا ترتقي إلى مستويات مرتفعة حيث إن المعابر مغلقة ولا يوجد قطع غيار بديلة والنقص في شاشات اللابتوبات كبير على اختلاف أنواعها".
تدمير البنية التحتية الرقمية
أدى قصف الاحتلال إلى تدمير جزء كبير من البنية التحتية الرقمية في غزة، بما في ذلك مراكز البيانات وشبكات الاتصالات. فقد تعمد الاحتلال استهداف مراكز وشبكات الاتصال بشكل مباشر، بل وأعاد تدمير ما تم ترميمه لاحقًا، مما أدى إلى شلل في الخدمات الرقمية.
هذا التدمير الممنهج يعوق بشكل كبير قدرة القطاع على التعافي التقني والعودة إلى العمل، ويزيد من عزلته الرقمية عن العالم، في وقت أصبح فيه الاتصال أداة أساسية للحياة اليومية والتنمية الاقتصادية.
المهندس يضيف: "معظم شركات توزيع الخدمات ومزودي الانترنت تعرضت خوادمها (السيرفرات) للضرر المباشر، وهذا اعطي سلبية كبيرة في إعادة انتشار الخدمة من جديد ولا يوجد بديل للأسف".
مستقبل قاتم للقطاع التكنولوجي
في ظل استمرار الحصار الرقمي المفروض على غزة، تتزايد المخاوف من اتساع الفجوة الرقمية بين القطاع وبقية العالم، مما يهدد مستقبل جيل كامل من المبدعين والمبتكرين الذين يُحرمون من فرص التعلم، العمل، والتواصل مع العالم الخارجي. فالعزلة التكنولوجية لا تقتصر فقط على ضعف البنية التحتية، بل تمتد لتؤثر على القدرات الفردية والجماعية، مما يجعل اللحاق بركب التطور الرقمي تحديًا شبه مستحيل بدون دعم فوري وكبير.
المدهون يؤكد: "الفجوة ظلامية وموجعة حيث أن اغلاق المعابر لإدخال البضائع نتائجه كارثية و كذلك منع السفر للخارج والذى هو حق مكفول لكل العاملين في هذا القطاع يحول دون اطلاعهم وتواصلهم مع شركائهم أو الوصول اليهم وبالتالي يضيع عليهم الفرصة بالاستمرار في اكتساب مهارات وخبرات جديدة".
يمثل الحصار الرقمي المفروض على قطاع غزة أحد أخطر أوجه المعاناة المستمرة، إذ لا يقتصر تأثيره على الحاضر فحسب، بل يهدد بتقويض مستقبل الأجيال القادمة في مجالات التعليم، التكنولوجيا، والعمل الحر. إن استمرار عزل غزة عن العالم الرقمي يفرض واقعًا كارثيًا على جميع المستويات، مما يحتم تحركًا عاجلًا من المجتمع الدولي لإنهاء هذا الحصار، وإعادة بناء البنية التحتية الرقمية، ودعم الكفاءات الشابة لتمكينهم من اللحاق بركب التطور العالمي وصناعة مستقبل أفضل.