الرئيسية| تقدير موقف| تفاصيل الخبر

غزة والضغط الشعبي يفتحان ثغرات في جدار الدعم لإسرائيل

تقدير موقف مراجعة الشراكة ومأزق الدعم: تقدير موقف حول التحرك الأوروبي ضد الاحتلال

02:48 م،22 مايو 2025

برنامج الانتاج المعرفي

تشهد المواقف الأوروبية من الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 تحولًا تدريجيًّا يتجاوز بيانات التنديد الشكلية، ليمتد إلى إجراءات سياسية ودبلوماسية أكثر وضوحًا، مثل مراجعة اتفاقيات الشراكة، وتجميد التعاون العسكري، والاعتراف المحتمل بالدولة الفلسطينية.

ويأتي هذا التحول بعد شهور من الدعم المباشر أو الصمت الغربيين حيال واحدة من أبشع الجرائم الجماعية في التاريخ الحديث، والتي تنطبق عليها كل معايير "الإبادة الجماعية" وفق تقارير أممية ومنظمات حقوقية بارزة.

ومع تصاعد الحراك البرلماني والشعبي داخل دول أوروبية مؤثرة، وتزايد الهوَّة بين بعض الحكومات الغربية و"إسرائيل"، يبرز السؤال المركزي الذي تحاول هذه الورقة الإجابة عنه: إلى أي مدى يمكن أن يتطور التحرك الأوروبي ضد "إسرائيل" في ضوء حرب الإبادة على غزة؟ وهل يمثِّل هذا التحولُ فرصةً استراتيجيةً يمكن توظيفها فلسطينيًّا؟

تنبع أهمية هذا التقدير من كونه يتناول واحدًا من المسارات الدولية الأكثر حساسيةَ وتأثيرًا على موازين الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، لا سيما أن التحرك الأوروبي، إذا ما تصاعد، قد يمثِّل بدايةَ تراجُعٍ في شرعية الاحتلال ضمن فضائه التقليدي من الحلفاء الغربيين.

تقدِّم الورقة، الصادرة عن مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، قراءةً تحليليةً في طبيعة التحولات الأوروبية، وتستعرض أبرزَ مظاهرها السياسية والقانونية، ومواقفَ الأطراف ذات الصلة، ثم تُقدِّر المساراتِ المحتملةَ لهذه التحركات عبر سيناريوهات ثلاثية، مع ترجيح السيناريو الأقرب للوقوع.

ملامح التحوُّل في المواقف الأوروبية تجاه حرب الإبادة على غزة

على الرغم من الانخراط الأوَّلي المباشر لبعض الدول الأوروبية في دعم الاحتلال الإسرائيلي، سياسيًّا وأمنيًّا، في حربه المفتوحة على قطاع غزة، بدأت ملامح تحوُّل تدريجي تظهر في السياسات الأوروبية، مدفوعة بضغط شعبي متزايد، وتصاعُد الانتقادات الدولية، وتفاقم الأزمة الإنسانية التي وصلت إلى حد "الإبادة الجماعية". وقد تجسدت هذه التحولات في سلسلة من المواقف الرسمية، والتصريحات السياسية، والمراجعات القانونية التي تعبِّر عن تصاعد نسبي في منسوب المعارضة الأوروبية لاستمرار العدوان.

1. دعوات أوروبية جماعية لوقف العدوان

في سابقة ذات دلالة، أصدرت سبع دول أوروبية –تقدمتها إسبانيا– بيانًا مشتركًا دعت فيه إلى وقف فوري للهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، حمل عنوانًا واضحًا: "لن نصمت أمام الكارثة الإنسانية". وقد وقَّع على البيان كل من: إسبانيا، وأيرلندا، وآيسلندا، ومالطا، والنرويج، وسلوفينيا، ولوكسمبورغ، في خطوة تُعبِّر عن تحرك جماعي نحو موقف أكثر استقلالية وجرأة من السياسات الإسرائيلية.

وقد حذَّر البيان من المجاعة الوشيكة التي تهدِّد مئاتِ الآلاف في غزة، مشيرًا إلى تسجيل أكثر من 71 ألف حالة سوء تغذية حاد بين الأطفال نتيجة الحصار، ودعا "إسرائيل" إلى رفع فوري للحصار وضمان دخول المساعدات الإنسانية دون عوائق.

2. تحركات داخل الاتحاد الأوروبي

في تطور لافت، أعلنت منسقة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، دعمها لمراجعة اتفاقية الشراكة مع "إسرائيل"، ووصفت الوضع في غزة بـ"الكارثي"، مؤكدةً وجود أغلبية قوية داخل الاتحاد تدفع في هذا الاتجاه. وحسب تقارير إعلامية، فإن 17 دولة أوروبية أيَّدت هذا المسار، بينما رفضته 9 دول فقط.

كما حُدِّد يوم 26 مايو/أيار الجاري موعد تصويت محتمل داخل مجلس الشؤون الخارجية الأوروبي بشأن تعليق الاتفاقية، ما يعكس ارتفاعًا في منسوب المواقف الأوروبية غير التقليدية.

3. موقفٌ بريطانيٌّ أكثر حزمًا

أعلنت المملكة المتحدة تعليق محادثات اتفاقية التجارة الحرة مع "إسرائيل"، واستدعت السفيرة الإسرائيلية لإبلاغها برفض تصعيد العمليات العسكرية في غزة. كما فرضت لندن عقوبات على عدد من المستوطنين في الضفة الغربية، وأكدت الخارجية البريطانية أن استمرار المفاوضات التجارية بات غير ممكن في ظل "السياسات الفاضحة" التي تنتهجها "إسرائيل" في قطاع غزة والضفة الغربية.

4. تصعيدٌ إسبانيٌّ متعدد المسارات

برز الموقف الإسباني بوصفه الأكثر جرأة وتنوعًا، إذ شهدت الساحة البرلمانية تصويتًا على مقترح يحظر تصدير الأسلحة للدول المتورطة في جرائم إبادة، بما في ذلك "إسرائيل". كما أعلنت الحكومة الإسبانية أنها لم تشترِ أو تورِّد أسلحة لأية شركة إسرائيلية منذ اندلاع الحرب، وأنها لن تفعل ذلك مستقبلًا.

على الصعيد الثقافي، دعا رئيس الوزراء بيدرو سانشيز إلى استبعاد "إسرائيل" من الفعاليات الثقافية الدولية مثل "يوروفيجن"، مبررًا ذلك برفض ازدواج المعايير، وعادًّا أنه "يجب ألَّا تُعامَل إسرائيل بمعايير استثنائية".

كما أشارت تقارير إسبانية إلى أن مدريد بصدد تقديم مشروع قرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة يدعو إلى إنهاء الحصار على قطاع غزة، والسماح الفوري بدخول المساعدات.

5. تحذيرات دولية مشتركة من التصعيد

في بيان مشترك، حذَّر كل من إيمانويل ماكرون، وكير ستارمر، ومارك كارني من أنهم "لن يقفوا مكتوفي الأيدي" أمام الجرائم الإسرائيلية، ملوِّحين باتخاذ إجراءات ملموسة إذا استمر العدوان.

وفي كلمة أمام مجلس العموم، وصف وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، التصعيد الإسرائيلي بأنه "غير مبرر أخلاقيًّا، وغير متناسب إطلاقًا".

6. موقفٌ سويديٌّ واضح ضد ضمِّ غزة

أدانت وزيرة الخارجية السويدية، ماريا مالمر ستينرغارد، نية "إسرائيل" السيطرة على قطاع غزة، وعدَّت ذلك ضمًّا غير مشروع يخالف القانون الدولي، مؤكدة أن بلادها ترفض أي تغيير في جغرافية القطاع، وتدعو إلى وقف إطلاق النار، وزيادة دخول المساعدات، ومحاسبة المسؤولين عن تصعيد المعاناة.

كما أكدت الوزيرة السويدية دعم بلادها لفرض عقوبات على وزراء إسرائيليين يدعمون الاستيطان، في خطوة غير مسبوقة في السياسة الأوروبية تجاه "إسرائيل".

7. مواقف إيطالية وأسترالية داعمة

دعت إيطاليا، على لسان وزير خارجيتها أنطونيو تاياني، إلى وقف فوري للهجمات ضد قطاع غزة وفتح المعابر لإدخال المساعدات. بينما أدانت أستراليا، عبر وزيرة خارجيتها بيني وونغ، تصريحاتٍ وصفتها بالـ"بغيضة" صدرت عن مسؤولين إسرائيليين ضد سكان غزة، وطالبت بالسماح الفوري والكامل للمساعدات بالوصول إلى القطاع.

8. فرنسا وبريطانيا وكندا: نحو اعتراف جماعي بدولة فلسطين

وفي تطور يحمل دلالات استراتيجية تتجاوز المواقفَ الاعتراضيةَ الظرفية، أكد رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، أن التحرك نحو الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، والذي بدأت ملامحه تتبلور في كل من فرنسا والمملكة المتحدة وكندا، "لن يتوقف"، مشيرًا إلى أن الدول الثلاث قررت للمرة الأولى أن تتحرك بشكل مشترك للاعتراض على ما يجري في قطاع غزة، والمضي قدمًا في خطوات الاعتراف بفلسطين.

وجاءت تصريحات بايرو في خلال جلسة أمام مجلس النواب الفرنسي، ردًّا على تساؤل من زعيمة كتلة حزب "فرنسا الأبية"، ماتيلد بانو، التي طالبت الحكومة الفرنسية بإجراءات فاعلة، ملوِّحةً بأن استمرار الحرب الإسرائيلية قد يؤدي إلى "غياب الفلسطينيين" أنفسهم إذا استمرت الإبادة. هذا النقاش السياسي يعكس تنامي الإحراج داخل النخب السياسية الغربية، نتيجة التناقض بين الخطاب المعلن بدعم حل الدولتين، والصمت أو التواطؤ مع سياسات التهجير والتجويع والتدمير التي تمارسها حكومة الاحتلال.

وقد سبق هذه التصريحات بيان مشترك صدر عن قادة فرنسا (إيمانويل ماكرون)، وبريطانيا (كير ستارمر)، وكندا (مارك كارني)، لوَّحوا فيه بـ"إجراءات ملموسة" إذا لم توقف "إسرائيل" عملياتها العسكرية ولم تسمح بدخول المساعدات الإنسانية. ويبدو أن خطوة الاعتراف بفلسطين تأتي ضمن مسار تصعيدي سياسي–دبلوماسي، تسعى هذه الدول عبره إلى تقليص الفجوة بين خطابها الحقوقي، ومواقفها الفعلية تجاه الكارثة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة.

ويكتسب هذا التوجه زخمه من موجة الاعترافات المتزايدة بالدولة الفلسطينية، خصوصًا من دول الجنوب العالمي وأمريكا اللاتينية، ما يضغط على دول الاتحاد الأوروبي الكبرى لإعادة ضبط مواقفها التاريخية التي طالما قُيِّدت باعتبارات التحالف مع الولايات المتحدة، أو الخشية من ردود الفعل "الإسرائيلية".

ما دلالات مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية مع "إسرائيل"؟

يمثِّل إعلان الاتحاد الأوروبي نيتَه مراجعة اتفاقية الشراكة مع "إسرائيل" تطورًا بالغ الأهمية في مسار العلاقة بين الطرفين، ويُعَدُّ أحد أقوى المؤشرات على التحول النوعي في الموقف الأوروبي من سياسات الاحتلال، خاصةً بعد تفاقم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، وتصاعُد الانتقادات الدولية لما يوصف بـ"سياسة الإبادة والتجويع" التي تمارسها "إسرائيل".

وفي هذا السياق، أوضح الدكتور أيمن سلامة، أستاذ القانون الدولي، في تصريحات صحفية، أن هذه المراجعة تُعَدُّ إعادة تقييم شاملة للاتفاقية، في ضوء تساؤلات جوهرية حول مدى امتثال "إسرائيل" للبنود المتعلقة باحترام حقوق الإنسان، ومبادئ القانون الدولي الإنساني، خاصةً ما يتعلق بمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وهو بند يُعَدُّ جوهريًّا ضمن معايير العلاقات الدولية للاتحاد الأوروبي.

وأكد سلامة أن المراجعة تمثِّل ضغطًا سياسيًّا ودبلوماسيًّا مباشرًا على الاحتلال، وقد تؤدي إلى إعادة التفاوض على بنود الاتفاقية أو إدراج شروط جديدة تُلزم الطرف الإسرائيلي بالامتثال لمبادئ القانون الدولي.

كما أشار إلى أن نتائج المراجعة قد تفتح الباب أمام إجراءات تصعيدية، تبدأ من التعليق الجزئي أو الكلي للاتفاقية، وصولًا إلى فرض عقوبات اقتصادية أو دبلوماسية تشمل قيودًا تجارية، أو حظرًا على بعض المنتجات، أو تقليص مستوى العلاقات الدبلوماسية.

وعلى الرغم من أن المراجعة لا تعني تلقائيًّا إلغاء الاتفاقية، فإنها بمثابة تحذير رسمي صارم يعكس نفاد صبر الاتحاد الأوروبي من السياسات الإسرائيلية، ويعيد طرح سؤال الشرعية السياسية والقانونية لاستمرار اتفاقات التعاون في ظل اتهامات بانتهاك جسيم وممنهج لحقوق الإنسان.

كما تأتي هذه المراجعة في سياق أوسع من التحولات الأوروبية، إذ يتعاظم الإدراك داخل المؤسسات الأوروبية بأن استمرار التعامل مع "إسرائيل" بوصفها "شريكًا طبيعيًّا" لم يَعُد ممكنًا في ظل الوقائع المتصاعدة في قطاع غزة، وازدياد المطالب الداخلية في عدد من الدول الأوروبية لمساءلة الاحتلال وقطع العلاقات العسكرية أو الاقتصادية معه.

وبذلك، لا تقتصر أهمية هذه المراجعة على بُعدها الإجرائي القانوني، بل تُعَدُّ اختبارًا حقيقيًّا لمصداقية الاتحاد الأوروبي بوصفه قوةً عالميةً تدَّعي الدفاع عن القيم والحقوق الإنسانية، في ظل اتهامات متكررة بازدواجية المعايير في التعامل مع الصراعات الدولية.

مواقف الأطراف ذات العلاقة

الموقف الفلسطيني: ترحيب حذر وسعي للتوظيف السياسي

رحبت السلطة الفلسطينية بالمواقف الأوروبية الأخيرة، عادَّةً إياها منسجمةً مع موقفها الرسمي الداعي إلى "إنقاذ حل الدولتين، والوقف الفوري للعدوان، وانسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة، وضمان إدخال المساعدات الإنسانية، ومنع عمليات التهجير القسري"، مشددة على أن "قطاع غزة جزء لا يتجزأ من أرض دولة فلسطين". ويأتي هذا الترحيب في إطار سعي السلطة إلى توظيف التحولات الأوروبية لترميم المسار السياسي القائم على الاعتراف بالدولة الفلسطينية واستعادة المفاوضات.

بدورها، رأت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مصادقة البرلمان الإسباني على مقترح ينظر في حظر تجارة الأسلحة مع الاحتلال، تطورًا سياسيًّا مهمًّا يعكس تصاعد الوعي العالمي داخل المؤسسات الأوروبية. وأشارت الجبهة إلى أن القرار يُمثِّل ثمرة نضال الشارع الإسباني والمواقف التقدمية لحكومته، داعيةً إلى تعميم هذه الخطوة في برلمانات الدول الأوروبية الأخرى. كما طالبت الجبهةُ بوقف تزويد الاحتلال بالسلاح، وفرض العقوبات عليه، وعزله كـ"كيان مارق يرتكب جرائم إبادة جماعية"، تمهيدًا لمحاكمته دوليًا.

من جهتها، رحَّبت حركة "حماس" بالبيان الأوروبي المشترك الذي أدان سياسات الحصار والتجويع، ووصفت الموقف بأنه خطوة في الاتجاه الصحيح نحو إعادة الاعتبار للقانون الدولي، مؤكدة أن "حكومة نتنياهو المتطرفة تسعى إلى تقويض هذا القانون والانقلاب عليه من خلال تنفيذ إبادة جماعية وتهجير قسري".

الموقف "الإسرائيلي": توتر وارتباك دبلوماسي

عبَّرت حكومة الاحتلال الإسرائيلي عن امتعاضها الشديد من التحولات في المواقف الأوروبية، وظهرت في حالة ارتباك سياسي واضح، خصوصًا مع تصاعد وتيرة الإدانات الدولية لسياساتها في قطاع غزة.

في هذا الإطار، شن رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، هجومًا عنيفًا على قادة بريطانيا وكندا وفرنسا، بعد مطالبتهم بوقف العمليات العسكرية وتحذيرهم من اتخاذ "خطوات ملموسة"، عادًّا أن هذه المطالب "تكافئ الهجوم الذي وقع في 7 أكتوبر/تشرين الأول"، زاعمًا أن الدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية "تفتح الباب لمزيد من الفظائع".

من جانبها، أصدرت خارجية الاحتلال بيانًا ترفض فيه مواقف مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية، كايا كالاس، ووصفتها بأنها "تعكس سوء فهم تام للواقع"، مدعيةً أن هذه المواقف "تشجع حركة حماس على التمسك بمواقفها". وردًّا على الموقف البريطاني، قالت الوزارة إن "الضغوط الخارجية لن تثني إسرائيل عن الدفاع عن وجودها".

وفي تعبير صريح عن القلق الداخلي، نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، عن مصدر في الخارجية الإسرائيلية، أن "إسرائيل تواجه تسونامي دبلوماسيًّا حقيقيًّا"، وقد حذر المصدر من "مقاطعة صامتة تتسع وتتعمق"، وأن العالم "لم يَعُد مع إسرائيل"، في ظل صورة عالمية يهيمن عليها مقتل الأطفال ودمار المنازل في غزة، مضيفًا: "لن يرغب أحد في أن يرتبط اسمه بإسرائيل"، ما يعكس تصدعًا متسارعًا في الشرعية الدولية التي طالما استندت إليها السياسة الإسرائيلية.

موقف منظمة العفو الدولية: إدانة وتحذير من التقاعس

وصفت منظمة العفو الدولية قرار الاتحاد الأوروبي بمراجعة مدى امتثال إسرائيل للقانون الدولي بأنه "خطوة مرحب بها لكنها جاءت متأخرة بشكل كارثي". وقالت مديرة مكتب المؤسسات الأوروبية في المنظمة، إيف غيدي، إن المعاناة الإنسانية في غزة "لا توصف"، وإن "إسرائيل تواصل ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وسط إفلات مروع من العقاب".

وانتقدت غيدي تقاعس الاتحاد الأوروبي، عادًةً أن دعم بعض الدول الأعضاء قد شجع الحكومة الإسرائيلية على المجاهرة بأهدافها الإبادية، وأكدت أن "لا وقت لنضيعه"، مطالِبةً بتعليق فوري لجميع أنواع التجارة مع المستوطنات، وحظر نقل الأسلحة إلى "إسرائيل" من قبل الدول الأوروبية.

وشددت على أن وقف دوامة العنف والانتهاكات يتطلب إجراءات أوروبية جادة وشجاعة، لا مزيدًا من التصريحات، داعيةً إلى استخدام أدوات القانون الدولي لمحاسبة مرتكبي الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، والضغط على الاحتلال لوقف الحرب فورًا، ورفع الحصار، وإنهاء السياسات العقابية الجماعية.

السيناريوهات المستقبلية للتحرك الأوروبي تجاه الاحتلال الإسرائيلي

على ضوء التحولات المتزايدة في الخطاب والمواقف الأوروبية بشأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تظهر مؤشرات على تحول نوعي تدريجي في السياسة الأوروبية، مدفوعًا بعوامل مركبة تشمل: تصاعد الضغط الشعبي، وانكشاف الجرائم بحق المدنيين، واضطراب التوازن الأخلاقي في السياسات الأوروبية، والحرج المتنامي من ازدواجية المعايير.

ومع ذلك، لم يصل التحول الأوروبي بعد إلى نقطة القطع مع الاحتلال، وما يزال محكومًا باعتبارات توازنات داخلية (بين الدول الأعضاء)، وتحالفات استراتيجية مع الولايات المتحدة، إضافةً إلى قوة اللوبيات المؤيدة لـ"إسرائيل" داخل العواصم الغربية.

في ضوء ذلك، يمكن تصوُّر ثلاثة سيناريوهات رئيسية للمسار الأوروبي في الشهور المقبلة:

السيناريو الأول: التصعيد التدريجي وصولًا إلى فرض عقوبات جزئية

في هذا السيناريو، تستمر بعض الحكومات الأوروبية –بدفع من الرأي العام والبرلمانات– في تعليق اتفاقيات تعاون، وفرض قيود على صادرات الأسلحة، ومراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية–الإسرائيلية، وقد يتوسع ذلك ليشمل عقوبات دبلوماسية أو رمزية، مثل تجميد زيارات رسمية أو استبعاد "إسرائيل" من فعاليات ثقافية وعلمية.

ويترافق ذلك مع اعترافات متزايدة بالدولة الفلسطينية، سواءٌ من دول منفردة (إسبانيا، أو آيرلندا، أو بلجيكا، ...) أو جماعيًّا (كما يجري بين فرنسا، وبريطانيا، وكندا).

لكن من غير المتوقع أن يشمل هذا السيناريو عقوبات اقتصادية شاملة أو حظرًا أوروبيًّا موحدًا للأسلحة في المدى القصير.

مؤشرات داعمة: تصاعد وتيرة المواقف، وتأييد داخل البرلمان الأوروبي، ودعم منظمات دولية، وتآكل الدعم الأمريكي غير المشروط في بعض الملفات.

السيناريو الثاني: التجميد المؤقت دون خطوات ملموسة

يقضي هذا السيناريو بأن يبقى التحرك الأوروبي في حدود "المراجعة والضغط الدبلوماسي غير الملزم"، دون اتخاذ قرارات عملية مؤثرة، مثل فرض عقوبات أو تعليق اتفاقيات الشراكة، مع الاكتفاء بإصدار بيانات وتحذيرات ووقف بعض أشكال التعاون الرمزية.

ويعني هذا أن الاتحاد الأوروبي ككتلة سيُفضِّل الحفاظ على التوافق بين الدول الأعضاء، ما يؤدي إلى فرملة المبادرات الجريئة التي تطالب بها بعض الدول، بحجة غياب الإجماع.

مؤشرات داعمة: الانقسام داخل الاتحاد (17 دولة تؤيد المراجعة، و9 ترفضها)، والخشية من الصدام مع الولايات المتحدة، ووجود حكومات يمينية حليفة لـ"إسرائيل" في أوروبا الشرقية.

السيناريو الثالث: التراجع والارتداد مع تهدئة المشهد الميداني

يتصور هذا السيناريو أن انخفاض مستوى العدوان الميداني في غزة (سواءٌ عبر صفقة تبادل أو تهدئة مؤقتة) قد يؤدي إلى تخفيف الضغط الشعبي، وبالتالي يُعطي الذريعة لبعض الحكومات الأوروبية للتراجع عن مواقفها المتقدمة، أو على الأقل "تأجيلها"، بزعم أن الظروف لم تَعُد تستدعي تصعيدًا إضافيًّا.

وقد تستغل "إسرائيل" هذا المناخ لتنفيذ "هجوم دبلوماسي معاكس" يشمل حشد اللوبيات، واستخدام أدوات الضغط الاقتصادي، وربما طرح خطوات شكلية لتحسين صورتها أمام المجتمع الأوروبي.

مؤشرات داعمة: مرونة إسرائيلية انتقائية تجاه المساعدات، وعودة بعض أشكال التبادل التجاري، وتصريحات متراجعة من بعض الحكومات بعد هدوء مؤقت.

أيُّ السيناريوهاتِ الأرجَح؟

في ضوء المعطيات الحالية، يبدو أن السيناريو الأول (التصعيد التدريجي) هو الأقرب للتحقق، لا بسبب إرادة سياسية حاسمة لدى أوروبا، بل نتيجة تراكم الضغوط الداخلية، واتساع الفجوة الأخلاقية مع الاحتلال الإسرائيلي، واستمرار تعنت حكومة نتنياهو.

ومع ذلك، فإن هذا السيناريو مرهون باستمرار الكارثة الإنسانية في غزة، وتوحيد الجهد الفلسطيني والعربي والدولي للدفع نحو قرارات أوروبية أكثر صلابة.

وأما السيناريو الثاني فيبقى قائمًا بوصفه احتمالًا واقعيًّا في حال لم يُستثمَر الزخم الحالي، بينما السيناريو الثالث يبقى الأقل احتمالًا، لكنه يبقى ممكنًا إذا نجحت "إسرائيل" في خفض التوتر مؤقتًا دون معالجة جوهرية لأسباب الصراع.

خلاصة

تعكس التحركات الأوروبية الأخيرة تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة تحولًا نسبيًّا لكنه بالغ الدلالة في بنية المواقف الأوروبية التقليدية، التي طالما اتسمت بالدعم المباشر للاحتلال أو بالصمت الموارب عن جرائمه.

ويكشف هذا التحول، الذي تمثَّل بمراجعة اتفاقيات الشراكة، والاعترافات المحتملة بدولة فلسطين، والدعوات إلى وقف الإبادة، عن حالة من القلق المتصاعد داخل أوروبا من كلفة التواطؤ مع مشروع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.

لكن على الرغم من أهمية هذه المؤشرات، فإنها ما تزال تقف عند حدود التغيير التدريجي وغير المكتمل، ولم تتحول بعد إلى سياسة ردع حقيقية توقف العدوان أو تعاقب مرتكبيه. ويُرجَّح، وفق المعطيات القائمة، أن تشهد الشهور القادمة تصعيدًا أوروبيًّا تدريجيًّا في مستوى الإجراءات الرمزية والدبلوماسية، دون بلوغ مرحلة القطيعة الكاملة أو العقوبات الاقتصادية الجذرية، ما لم يتواصل الضغط الشعبي والإعلامي والحقوقي داخل أوروبا، وتُستثمر اللحظة سياسيًّا من الجانب الفلسطيني.

إن السيناريو الأقرب للتحقق يتمثل باستمرار التحولات المتفاوتة بين دول أوروبا، وتوسُّع الهوة بين خطاب بعض الحكومات الداعم لحقوق الإنسان، وبين حكومات أخرى أكثر تماهيًا مع السياسات الإسرائيلية.

وفي هذا السياق، تتطلب الفرصة المتاحة أمام الفلسطينيين حراكًا سياسيًّا موحدًا ومدروسًا، يسعى إلى تحويل التبدلات الأوروبية إلى مكتسبات استراتيجية دائمة، لا مجرد ارتدادات عاطفية على هول المجازر.

وعليه، فإن نجاح الفلسطينيين في التقاط اللحظة، وتوظيفها في مسارات دبلوماسية وقانونية فاعلة، سيكون كفيلًا بتوسيع هامش الضغط على الاحتلال، وتعرية تحالفاته الدولية، ودفع أوروبا –أو جزء معتبَر منها– نحو موقف أكثر انسجامًا مع مبادئها المعلنة، وأقل خضوعًا للابتزاز السياسي أو التاريخي.