إن موقف الجمهور الإسرائيلي من الاتفاق على إنهاء الحرب في قطاع غزة، ومن الخطوات التي أدت إلى بلورته، تحدده وتتحكم فيه خطوط الانقسام الأيديولوجي – السياسي، وهو خاضع تماماً لها، وينطوي على صراع حاد حول السردية قبيل الانتخابات المقبلة.
وفي مثل هذه الحالات، عندما تعبّر المواقف عن قضية ذات علاقة عميقة بالهوية، تُعتبر الادعاءات الصادرة عن "الطرف الآخر" باطلة ومرفوضة بالكامل، بينما تُعدّ الادعاءات الصادرة عنّا تجسيداً للحقيقة والعدالة، ويصعب فهم كيف يمكن لأحد أن يتعامى عنها.
إلّا أن هذا لا يعني أن الخلافات السياسية والأيديولوجية في إسرائيل غير متصلة بقضايا جوهرية تمسّ الصراع العربي – الإسرائيلي ومصير الدولة، لكن من غير المعقول أن يُعتبر كل طرح من الطرف الآخر غير مقبول إطلاقاً.
فلا يوجد في تاريخ الصراع خلال العقود الأخيرة – ولا في الحجج والمبادرات التي قدمها كلا المعسكرين في إسرائيل – ما يبرر هذا الرفض المطلق. وإحدى العلامات البارزة على السعي إلى حكم موضوعي هي القدرة على التعرّف إلى حجج الطرف الآخر التي قد تتضمن شيئاً من الصواب، ولو بدرجة محدودة.
في مثل هذا الوضع، يمكن الافتراض أن أي ضربات إسرائيلية ستحظى بدعم أميركي عام، على غرار ما تحظى به العمليات التي ينفّذها الجيش الإسرائيلي في لبنان لتعطيل جهود حزب الله في إعادة بناء بنيته التحتية. وقد لمّح الرئيس دونالد ترامب إلى ذلك في خطابه أمام الكنيست، وفي تصريحات لاحقة.
إن اتفاقاً كهذا، أضيفت إليه هيبة الرئيس الأميركي وثقله السياسي، لم يكن مطروحاً في السابق – لا قبل عام ونصف العام، ولا قبل نصف عام – وخلافاً لما يدّعيه البعض، فهو نتيجة مباشرة للتهديد الإسرائيلي الجدّي باحتلال مدينة غزة، وهو أمر كان سيئاً لإسرائيل ولـ"حماس" على حد سواء، لكنه استُخدم طوال الوقت كأداة ضغط.
وفي لعبة "البوكر" هذه، خسرت "حماس" جزئياً، لأن استمرار الحرب، وربما حتى الهجوم الإسرائيلي الفاشل الذي استهدف قيادة الحركة في قطر، أرعب الدول العربية، ومكّن ترامب من إتمام الصفقة في النهاية.
وخلال الأشهر التي سبقت التوصل إلى الاتفاق، سُمعت مزاعم تفيد بأن الصفقات التي يقترحها الأميركيون صيغت استناداً إلى نصوص ينقلها رون ديرمر، مبعوث رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
لكن الأمور انقلبت فجأة رأساً على عقب، وأصبح الحديث يدور الآن حول "صفقة ترامب"، وهي بالفعل صفقة من صُنعه، وكانت مساهمته في تحقيقها حاسمة.
لكن قبل كل شيء، "أجبر" الرئيس الأميركي "حماس" أولاً، ثم أجبر نتنياهو – وبشكل خاص فيما يتعلق بآفاق إقامة دولة فلسطينية في المستقبل عندما تنضج الظروف، وهو أمر غير مريح لرئيس الوزراء أمام قاعدته السياسية.
هذا هو الترتيب الصحيح، خلافاً لما يمكن أن يُستنتج من أقوال كثيرين في إسرائيل والعالم.
وتجدر الإشارة إلى أنه، بحسب تقدير كاتب هذه السطور، فإن نتنياهو كان سعيداً بأن "يُجبَر" على هذا الاتفاق، لأن الذهاب إلى انتخابات جديدة بينما الحرب مستمرة، والرهائن لا يزالون في الأسر أو قُتلوا، كان يمكن أن يكون كارثياً بالنسبة إليه.
إن تركيبة الائتلاف الحالي، وتصريحات الوزراء وأعضاء الكنيست فيه، فضلًا عن صمت نتنياهو أو تغاضيه عن ممارسات اليمين المتطرف، تسببت بضرر سياسي كبير لإسرائيل خلال الحرب. ويُضاف إلى ذلك تفاقم الضرر نتيجة خطة الهجرة التي عرضها الرئيس ترامب على سكان قطاع غزة، والتي استقطبت اليمين المسياني – الاستيطاني في إسرائيل، الذي ظن أن أحلامه كلها على وشك التحقق.
من جهة أخرى، يُشار إلى أن موقف المعارضة الداعي إلى وقف الحرب في مراحل مبكرة كان خاطئًا، وجاء جزء كبير منه نتيجة ضغط الشارع، ومن المرجح أن نتنياهو سيستغل ذلك في الحملة الانتخابية المقبلة.
أمّا موقف الحكومة الرافض تمامًا لأي دور للسلطة الفلسطينية في قطاع غزة في "اليوم التالي"، فيُعدّ خطأً جسيمًا. فقد كان هذا واضحًا منذ بداية الحرب، وسيكون له تداعيات خطِرة على المستقبل أيضًا. إن وجود قوة فلسطينية في القطاع، ربما لم تكن لتحارب "حماس" فعليًا، كان سيشكّل الضمانة الوحيدة لاستمرار حرية العمل الإسرائيلي في حال أخلّت "حماس" بالاتفاق.
إلّا أن تدويل الصراع عبر إدخال قوات أجنبية – عربية أو غيرها – وهو، للمفارقة، ناتج من الموقف الإسرائيلي ذاته – أمر سيئ جدًا لإسرائيل، إذ إن وجود هذه القوات سيجعل أي عملية عسكرية إسرائيلية داخل القطاع شبه مستحيلة، ولن تكون تلك القوات راغبة في مواجهة "حماس"، حتى لو أرادت ذلك – إذا أرادت أصلًا.
ومع ذلك، لا يبدو حاليًا أن هناك قوات عربية (باستثناء الإمارات) متحمسة لدخول القطاع، لأن حكّام الدول العربية يدركون تمامًا حجم المأزق المتوقع والضرر الذي سيلحق بهم أمام شعوبهم. أمّا القوات التركية أو القطرية، فستقدّم دعمًا فعليًا لـ"حماس"، وعلى إسرائيل أن تعارض دخولها بشكل قاطع.
من الصعب تخيّل أن الإدارة المدنية التي ستُقام في القطاع، أو القوات الدولية العاملة هناك، ستتعاون مع إسرائيل بشكل حقيقي أو تتجاوب مع مطالبها الأمنية وغيرها. ومن المرجح أن تبذل الولايات المتحدة وممثلوها جهدًا حقيقيًا لفرض تنفيذ الاتفاق الذي رعوه وتعهدوا به، لكن حتى لو تعلّم الجميع أنه من الأفضل عدم قول "لا" لترامب، فلن يكون مفاجئًا أن يواجه تنفيذ الاتفاق مماطلةً وترددًا وخداعًا على الطريقة الشرق أوسطية من جميع الأطراف العربية المعنية.
وفي جميع الأحوال، يجب على إسرائيل أن تُصرّ، كموقف رسمي، على تنفيذ كل بند في الاتفاق بدقة.
كانت الأولوية القصوى لجميع الأطراف متمثلة في إنجاز المرحلة الأولى، وهذا أمر جيد، إذ لولاها لما أمكن التوصل إلى أي اتفاق، على الرغم من مزاياه الكبيرة لإسرائيل. أمّا المراحل اللاحقة، فهي غامضة جدًا ومليئة بالشكوك، وستتعامل إسرائيل معها بعد عودة "الرهائن". وتبقى التقديرات بشأن تنفيذ المرحلة الثانية ضمن دائرة التكهنات إلى حدّ كبير، واحتمالات تنفيذ الاتفاق نصًا وروحًا ليست مرتفعة.
من المرجح ألّا تتخلى "حماس" عن سلاحها، وأن تعمل على الحفاظ على وجودها وربما تجديد سيطرتها العملية على الأرض، إلى جانب أي سلطة مدنية تُشكَّل لإدارة القطاع. وستعيد تنظيم صفوفها وتسعى جاهدًة لاستعادة قوتها – حتى ولو بدرجة أقل مما كانت عليه في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 – لكنها ستبقى تمتلك قدرات مهمة.
وفي مثل هذا الوضع، قد تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى استئناف القتال، وعلى الأرجح، بموافقة أميركية.
لكن جمع الأسلحة الخفيفة من أيدي عناصر "حماس" أمر شبه مستحيل عمليًا وأقلّ أهمية، بينما تُعدّ مسألة تحييد الأنفاق – التي تشكل البنية التحتية لإعادة بناء مصانع الصواريخ – القضية المحورية لاحقًا. إن صعوبة التعامل مع الأنفاق هي السبب في أن الحرب على القطاع استمرت عامين، وتطلبت عددًا من الفرق العسكرية يفوق ما استخدمه الجيش الإسرائيلي ضد الجيش المصري في حرب 1967، أو ضد الجيوش العربية في حرب أكتوبر [1973]، وهو ما حال دون تحقيق الحسم الكامل.
هذا هو الفارق الذي جعل الجيش يحقق إنجازات ساحقة ضد حزب الله وإيران في جبهات أخرى خلال فترة وجيزة.
هناك سيناريو أكثر تفاؤلًا، يقضي بأن تُسلِّم "حماس" الأنفاق إلى الإدارة الموقتة وهيئات الرقابة، لكن احتمال تحقق هذا السيناريو يبدو ضعيفًا، لأن "حماس" لا تثق بأن إسرائيل ستفي بالتزاماتها، رغم التعهدات الأميركية.
سياسيًا، إذا لم تتخلَّ "حماس" عن سلاحها واستمرت في السيطرة الفعلية على نحو نصف القطاع، خلف "الخط الأصفر" الذي يحدد حدود الانسحاب الإسرائيلي، فسيكون من الضروري تنفيذ المادة 17 من خطة ترامب، التي تنص على إدخال إدارة فلسطينية وقوات شرطة (ويُفضَّل أن تكون فلسطينية)، والأهم تمكين عملية إعادة إعمار دولية للمناطق المدمّرة، ولكن فقط في المناطق التي لا تسيطر عليها "حماس"، وهو ما قد يؤدي إلى انتقال السكان نحو المناطق التي يُعاد إعمارها.
كانت الأضرار السياسية التي لحقت بإسرائيل جراء المعركة في غزة جسيمة للغاية، وجزء منها – كما ذُكر – نابع من تصريحات الحكومة والائتلاف. ومع ذلك، يجب التذكير بأن إسرائيل كانت معزولة تمامًا – باستثناء الدعم الأميركي – خلال حرب أكتوبر والأعوام التي تلتها، وكذلك في أثناء الانتفاضة الثانية.
وما زلنا نتذكر زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك العدائية للقدس في تلك الفترة، ولم يكن واضحًا إلى أين كانت ستصل إسرائيل لولا تغيّر المشهد العالمي بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، التي أدت في النهاية إلى إعادة السيطرة على الضفة الغربية في عملية "السور الواقي" [2002].
في كلتا الحالتين، كما في الحرب الحالية، كانت إسرائيل مضطرة إلى حسم المعركة العسكرية المصيرية أولًا، فلا وجود لإسرائيل في الشرق الأوسط من دون ذلك، ولا أمل بأي تسويات سياسية أيضًا.
وفعلًا، بعد الكارثة، نجحت إسرائيل في تفكيك "حلقة النار" الإيرانية التي كانت تُضيّق عليها طوال أعوام، وألحقت أضرارًا جسيمة بحزب الله، وشنّت هجومًا حاسمًا ضد إيران، ودمّرت معظم بنى "حماس" في غزة.
وفي ما يتعلق بالعملية ضد إيران، سُمعت في إسرائيل انتقادات وشكوك حول مدى نجاحها، وكأن هناك بدائل أفضل لمواجهة الخطر الذي كاد أن يصبح حرجًا، بعد انسحاب ترامب عام 2018 – بتشجيع من نتنياهو – من الاتفاق النووي، وحصول إيران على نحو 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60%.
ولا يُعرف إلى أين سيقود ذلك من حيث تقدُّم إيران نحو القدرة النووية العسكرية، لكن للمرة الأولى قامت الولايات المتحدة بعمل عسكري مباشر ضد البرنامج النووي الإيراني، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات سياسية وعسكرية.
علاوةً على ذلك، وللمرة الأولى في العالم العربي، بدأت بوادر عمليات تحديث ناجحة – حتى الآن – في أطراف المنطقة الغنية بالطاقة، وخصوصًا في إمارات الخليج، ومع عقبات ثقافية واجتماعية أكبر في السعودية أيضًا.
ويبقى أن نرى مدى انتشار هذه العمليات في قلب العالم العربي وتأثيرها فيه وفي الصراع العربي – الإسرائيلي. ويبدو أن هناك فرصًا حقيقية للتقدم نحو تسويات جديدة، وفي مقدمتها توسيع "اتفاقيات أبراهام"، الأمر الذي يتطلب جعل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي هدفًا معلنًا.
بالنسبة إلى إسرائيل، أصبح إنهاء الاحتلال والانفصال عن الفلسطينيين ضرورة وجودية، لكن الأمر يحتاج إلى طرفين.
أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فلا يمكن القول حتى الآن إنهم غيّروا مواقفهم الأساسية، إذ أظهر آخر استطلاع أجراه "معهد الدراسات الاستراتيجية" أن نحو نصف المستطلَعين في الضفة الغربية يرون أنه لا حق لإسرائيل في الوجود، ويعتقد هؤلاء أنها لن تبقى.
ومن جهة أخرى، فإن السجل الفلسطيني عبر السنين – الذي برّر جميع المخاوف الإسرائيلية – أدى إلى تطرّف مقلق في المواقف داخل إسرائيل أيضًا (انظر: "ما هي المشكلة مع المشكلة الفلسطينية؟" للكاتب نفسه).
إن فكرة "الشرق الأوسط الجديد"، التي بدت وهمًا في وقتها، هي في أحسن الأحوال مشروع لأجيال قادمة، ومع ذلك، من الجيد أن الإدارة الأميركية عرضتها كـ"رؤية" لمستقبل المنطقة، ويجب الترحيب بكل خطوة عملية في هذا الاتجاه، والسعي إلى تحقيقها.
بقلم: عزرا جات